ملخص لخطبة جمعة في رمضان الفائت:
بدر الكبري وأبا الاولي
كلفني الدكتور منصور حسن بإمامة صلاة الجمعة في مسجد الحاج مردس بالكلاكلة فاستجبت، ودفعتني هذه الاستجابة الي البحث عن انسب المواضيع التي تشد المصلين نحوالخطبة؛ وتتسق في ذات الوقت مع مناسبة هذا الشهرالكريم. فهداني تفكيري الي تناول موضوع غزوة بدر الكبري باعتبارها أول معركة في الاسلام. وواقعة أبا الاولي لكونها أول معارك المهدية ضد الاستعمار الانجليزي.
وفور هذا الاختيار شرعت في جمع مادة الموضوع لإخضاعها للتحليل قبل يوم الجمعة 14 رمضان ، ولكن ما لم اكن اتوقعه هو أن لا أجد مادةًَ للبحث في هذا الموضوع بصورة مترابطة ، سوي بعض الكتابات المتناثرة رغم وجود الشبكة العنكبوتية.
وقد اسعفتني اخيراً العناية بأن وجدت المساعدة من الاستاذتين إيمان الخواض ، وإنعام الجمري من مكتب الامام الصادق المهدي ، فوجدت ضالتي نسبياً فيما أعطياني اياه من أوراق وخطابات سابقة بخصوص هذه المناسبة.
والمدهش حقاً هو ان المعركتين إتفقتا في الزمان، وفي الموازنة الحربية، وفي رقم المعركة، وفي النتيجة وإليك بيان ذلك:*وقعت معركة بدر الكبري في يوم 17 رمضان من عام 624 ه، وكانت أبا الاولي في يوم 17 رمضان من عام 1298 ه .
*كان عدد المسلمين في بدر 313 ؛وكذلك كان عدد الانصار في أبا ، وهذا الرقم يساوي عدد أصحاب جالوت الذين جاوزوا معه النهر .
*الموازنة الحربية في بدر كانت مائلة لصالح قريش من حيث العدة و العدد والعتاد ،إذ كانت نسبة المسلمين تمثل ثلث المشركين؛ وهذا هو الذي حدث في أبا ؛ حيث كان الميزان الحربي مائلاً لصالح الانجليز ايضاً ؛ إذ انهم كانوا مسلحين بالبنادق، والمدافع بعيدة المدي،فضلا عن الفارق الكبير في افراد الجيشين..
*صارت بدر مصدر إلهام للمسلمين ، لأنها كانت فتحاً ساد بعده الاسلام مشارق الارض ومغاربها.ومثلت أبا ايضاً دافع تحرك بالنسبة للأنصار حتي عمت المهدية كافة أركان السودان.
*علي الرغم من إختلال التوازن المادي للمسلمين في المعركتين ؛ فإن النتيجة كانت ولله الحمد لصالح المسلمين.
*هناك شي مثير للغاية هو أن دعوات الحق يقف دائماً بجانبها المستضعفين والارقاء والفقراء؛ وهذا ماحدث لكافة الانبياء علي نحو قال قوم نوح: ( ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الراي ) وايضاً ثمود حينما ارسل اليهم صالحاً كيف تولي عنه المستكبرون ، وآمن به المستضعفون ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه * قالوا إنا بالذي ارسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنا بالذي امنتم به كافرون ) .
وليست دعوة الامام المهدي بمعزل عن هذا الاثر ، ذلك لأن المهدي كان حريصاً علي إقتفاء اثر النبي "ص"، ومتاسياً به، ويؤكد ذلك ما قاله لاصحابه " أقفوا أثر النبي "ص" بالأمر بما أمر به، والنهي عن ما نهي عنه" وايضاً ما جاء في الراتب " وادخلنا مدخله يا رب العالمين واخرجنا مخرجه " .
لذلك استوعبت المهدية من هم آرقاء وجعلتهم في مقدمة الصفوف كحمدان أبو عنجة ، ورابح الحبشي، كما أن المهدي اكمل قواته استعداداً لمعركة ابا من صبيان الخلوة وليس من زعماء القبائل.ولكن مع ما ذكر من سياق ٍتاريخي إلا أنه يجب أن لا يصرفنا ذلك عن معاني تلك المعارك ، لان التاريخ لا يقرأ من أجل التسلية فقط ؛ وإنما لاستخلاص الدروس والمعاني التي يجب أن نستفيد منها في عصرنا الحالي.
إن أولي المعاني التي يجب ان ناخذها من تلك المعارك هو أن القتال لم يشرع إلا بعد أن عاني المسلمين الواناً من العذاب والاذي ، وبعد أن فرضت عليهم قريش حصاراً اقتصادياً ، بل واكثر من ذلك بأن منعت حرية الدعوة الاسلامية ؛ ولذلك كان الخطاب القرأني واضحاً ( ‘اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله علي نصرهم لقدير * الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) .
ان قطعيات الوحي أوضحت بشكل جلي أن القتال في الاسلام لا يكون الا في حالتين :
*اما لرد العدوان علي المسلمين.
*او منع حرية الدعوة الاسلامية.
ولكن مع ذلك فان هناك فهماً هجومياً للاسلام يصَور القتال كأنه جهاد طلب، وأن علته الشرك، وينطلق هؤلاء من اجتهاد فحواه " أن ايات السيف في القرآن ناسخة لآيات التسامح" هذا الفهم يؤيده ثلة من الفقهاء والمفسرين، وبعض الجماعات الجهادية كطالبان والقاعدة واخيراً بوكو حرام في نيجيريا.
لقد فنًد هذا الفهم عدد من المحدثين منهم د/ يوسف القرضاوي، والامام الصادق المهدي وأكدوا أن القتال في الاسلام لا يكون إلا في الحالتين المذكورتين آنفاً.
المعني الثاني الذي يجب أن ناخذه من تلك المعارك " الشوري".
إن اصحاب النبي "ص" عندما خرجوا لبدر لم يقصدوا القتال، وإنما خرجوا من أجل عير قريش التي يقودها أبا سفيان تعويضاً لهم عن الأموال التي صادرتها قريش ؛ وقد بيَن ذلك القرآن ( وإذ يعدكم الله إحدي الطائفتين انها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم * ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ).
ولما التمس أبا سفيان طريق الساحل وفلت من المسلمين ، وقف النبي "ص" يشاور اصحابه وهو يقول" أشيروا علي أيها الناس" ، فقال سعد بن معاذ: كأنك تريدنا يا رسول الله . قال : نعم . فقال سعد : لقد آمنا بك وصدقناك فامض ما أردت فنحن معك. .
إن النبي "ص" مع كونه نبياً يوحي اليه من السماء، إلا أن هذا لم يمنعه من مشاورة اصحابه ، في حين أننا نجد في عصرنا الحالي حكَام يتعاملون مع الناس بمقولة فرعون التي صورها القرآن ( ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) !.
إنني بعد ذكر هذه المعاني أتسآل مع القارئ ، كيف حقق الصحابة هذا الانتصار مع أن كافة مؤشرات الفوز مع قريش؟ الإجابة علي هذا السؤال لخصها عدد من المهتمين بالسيرة النبوية ؛منهم د/ محمد سعيد رمضان في كتابه " فقه السيرة النبوية" وأحيل القأري الي المراجع المختصة في هذا الشأن .
أما السؤآل الذي سنجيب عليه هنا ؛ هو ما السر الذي جعل الانصار ينتصرون في معركة أبا الاولي ، في حين أن دلائل النصر المادية مائلة الي قوات إبراهيم أفندي ؟ لا شك أنها العناية الآلهية ، ولكن هناك منشوراً فيه حواراً بين الامام المهدي وعبد الرحمن النجومي ربما يساعدنا في تفسير هذه المسألة ،وفحوي المنشور الاتي: (أن عبد الرحمن النجومي وحمدان ابو عنجة ارسلا الي جبال النوبة ومعهما قوة لحسم التمرد الذي حدث آنذاك في تلك المنطقة. ولمَا وصلا منطقة يقال لها مندر حاصرتهم القبائل ، وأنقطع عنهم الماء والكلا ، وبينما هم علي الحالة وجدوا مطمورة بها قليلٌ من السمَسم والويكة والبصل. فقالوا والله لانأكل إلا بعد أن نأخذ فتوي من الامام المهدي في أمدرمان يوضح لنا فيها حرمة هذه الأصناف من اباحتها،_ وتخيَل معي أيها القارئ المسافة بين جبال النوبة وأمدرمان في وقت كانت فيه وسائل المواصلات الدواب _ وبالفعل أرسلوا رسالة الي الإمام المهدي يستفتونه في أمر السمَسم والويكة والبصل .
فآجابهم بجواز الأكل من تلك الاصناف من غير إدخار).فهل تري أيها القارئ بعد ذكر هذا الموقف إستغراباً أودهشة في فوز الانصار علي الانجليز ، رغم انحياز الميزان المادي لصالح الاعداء؟ إنني أترك تقييم هذا الموقف والإجابة علي هذا السؤال لحصافة القارئ الكريم.
ولكن هذه الرسالة يجب أن نرسلها الي الانظمة التي تدعيَ أنها إسلامية ونسبة الفساد فيها تتجاوز 40%.