الدلالات الرمزية في مختارات الطيب صالح: "منسي: إنسان نادر على طريقته!"
أحمد إبراهيم أبوشوك
ترجع صلتي بأدبيات الطيب صالح إلي صيف عام 1975م، عندما قرأتُ عمله الروائي البديع "موسم الهجرة إلى الشمال"، ووقتها كنت طالباً في المرحلة المتوسطة بقرية قنتي التي تبعد بضعة أميال من مسقط رأسه، ومقطع سُرته بقرية الدبة (كرمكول)، وكانت قراءتي الثانية في المرحلة الثانوية بمدينة كورتي في مطلع عقد الثمانينيات، والثالثة في مدينة بيرجن النرويجية في عقد التسعينيات، وكل واحدة من هذه القراءات الثلاث كان لها دلالاتها الخاصة، ولكنني في خاتمة المطاف أيقنتُ أن لثنائية الزمان والمكان، والاستعداد المعرفي للقارئ أثر خارق في إدراك القيم الرمزية التي تكتنـزها روايات الطيب صالح، بدءاً بـ "نخلة على الجدول" وانتهاءً بـ "ضو البيت"، ولشخصياته الدائرية قدرة خارقة على اختراق قيد المكان الثابت جغرافياً، وتجاوز حيوية الزمن المتغيرة دوماً. وقبل أسابيع أهداني الأخ الصديق الأستاذ محمود صالح عثمان صالح نسخة حديثة النشر من مختارات الطيب صالح، يعكس عنوانها الذي جاء في قاعدة الغلاف الورقي نموذجاً من نماذج وفاء المؤلف لأصدقائه: "منسي: إنسان نادر على طريقته!"، ومنسي في عُرف الكاتب إنسان مصري له خصلتان حميدتان، "حبه للبسطاء وحفاظه للود. وقد ظل طول حياته يحتفظ بكل الصداقات التي كونها منذ بداية حياته ويضيف صداقات جديدة".(ص 21) والشيء الآخر الذي أثار إعجاب صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" حسب مبلغ ظني هو قُدرة منسي المذهلة على "التعرُّف بالناس واصطناع الأصدقاء والاحتفاظ بهم. وكان أصدقاؤه من مختلف الأجناس، وشتى المذاهب والمشارب والأقدار والمراتب. وكانوا كلهم عنده سواسية، الأمير مثل الفقير، يعاملهم ببساطة ودون تكلف." (ص 21)
يقع هذا العمل الأدبي البديع في 198 صفحة من الحجم المتوسط، مُقسم إلى أربع وثلاثين لوحة أدبية مترابطة موضوعاً ومعنًى، ومتداخلة من حيث الزمان والمكان، وقد صدرت طبعته الأولى عن شركة رياض الريس البيروتية للطباعة والنشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2004م، وعلق على صفحة غلافه الأخيرة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح بعبارات تلامس أطراف قامة الرجل الأدبية الشامخة، وتعكس عمقاً من أعماق تجلياته الفكرية: "... الطيب صالح -في رأي- كاتب شامل، مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة واطلاعه الواسع باللغتين العربية والإنجليزية على علم اللغة، والفقه، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، وعلم الأجناس، والأدب، والشعر، والمسرح، والإعلام، أن يروى، ويحكي، ويخبر، ويوصف، ويحلل، ويقارن، وينقد، ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر، كما تشهد هذه المجموعة من مختارات الطيب صالح".
وأحسب أن قراءتي الأولى لسيرة منسي التي نسج خيوطها الأديب الطيب صالح بأسلوبه السهل الممتنع ستكون قراءة لها دلالتها الرمزية أيضاً، ربما تُشبه قراءتي الأولى لـ"موسم الهجرة إلى الشمال"، لكن الاختلاف بينها وبين تلك القراءة اختلاف توثيق ومعيار، علماً بأنني أريد أن أشرك القارئ الكريم في الدلالات الرمزية التي استقيتها من هذه السيرة المختارة عن حياة شخصية – كما يرى الطيب صالح- "غير مهمة بموازين الدنيا، ولكنها كانت مهمة في عرف ناس قليلين، قبلوها على عواهنها، وأحبوها على علاتها" (ص 9). والطريف في الأمر أن هذه الشخصية كانت تحمل أكثر من اسم، وتلعب أكثر من دور في مسارح الحياة التي تعج بالمتناقضات، لذا فقد عُرف صاحبها في موطن ميلاده ونشأته الأولى في صعيد مصر بـ "منسي يوسف بسطاوروس"، وأطلقت عليه الجالية المسلمة التي تواضع على ملتها في بلاد المهجر اسم "أحمد منسي يوسف"، وسجلت سلطات الجوازات والهجرة بياناته الشخصية تحت اسم "مايكل جوزف".
فلا غرو أن سيرة منسي ذات الأبعاد المتداخلة والمسارات المتعرجة هي سيرة حقيقية كما أكد الطيب صالح في المقابلة التي أجراها معه الأستاذ خالد فتح الرحمن عبر القناة الفضائية السودانية، وليست روايةً منحوتةً من خيال الراوي الخصب وثقافته الدفاقة، كما يعتقد بعض الأدباء والنقاد والقراء، إلا أن هذا التأكيد لا يمنعنا من أن نضعها في خانات فنون الإبداع الأدبي مجتمعة، لأنها تحمل بين طياتها سلاسة القصص المروية، وعذوبة السير الذاتية، وفكاهة الذكريات التي تتخللها نكات الحياة المتنوعة وأريحية الكاتب وإنسانيته في عرض ملامح شخصية صديقه منسي يوسف بسطاوروس. وفي ضوء هذه القيم الإبداعية نؤكد القول بأن قراءة هذه السيرة ليست خاضعة لحكم الطيب صالح، بل تخضع لمزاج المتلقي الذي يصورها كيفما شاء في سلاسة ويسر، لأنه يجد فيها جزءاً من طرافة "عُرس الزين"، وبُعداً من أبعاد مرحلة ما بعد الاستعمار التي جسدها مصطفي سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، لأن "موسم الهجرة إلى الشمال" في عُرف بعض النقاد والأدباء رواية تعكس إفرازات "نظرية ما بعد الاستعمار"، تلك النظرية التي وضع لبناتها فرانز فانون، وتناول بعض جوانبها إدوارد سعيد في كتابه الموسوم بـ "الاستشراق"، ووثق طرفاً من مشاهدها وحيثياتها بيل اشكرفت وآخرون في كتابهم المعروف بـ "الإمبراطورية ترد كتابةً".
فالسيرة في مجملها قامت على ثنائية جاذبة، زاوجت بين نذر قليل من سيرة الطيب صالح الذاتية، وطرف رئيس من سيرة صديقه منسي يوسف بسطاوروس، ولا شك أن مفردات السيرتين المنتقاة تشكلت في واقع معيش ومشترك بين رمزيهما، وقد حمل ذلك الواقع بين جوانحه سلسلة من المواقف والتحديات والذكريات المشتركة التي عُرضت مشاهدها على مسارح متعددة، واختلفت غايات المشاهدون وأهدافهم فيها. أما حصيلتهما السردية فقد نُسجت بمناول راوٍ مبدع، استطاع أن يربط مفرداتها ربطاً روائياً محكماً، أخرجها من رتابة السير والتراجم الإطرائية المتعارف عليها، وجعلها تتداخل في بعضها بعضاً في سلاسة ويسر، وتكتنـز أيضاً بين طياتها ثلة من القيم والدلالات الرمزية، التي يمكننا أن نجمل فيما يلي:
أولاً: التسامح السياسي وحوار الأديان
تتجلى قيم التسامح الديني في نشأت منسي بن يوسف بسطاوروس، الذي ولد قبطياً في بلدة ملاوي في عمق صعيد مصر، حيث التواصل الأريحي بين المسلمين والمسيحيين، ذلك التواصل الذي تجسدت معالمه في قول منسي: بأنه كان يقضي معظم أوقات فارغة مع أترابه من أطفال المسلمين، وكان يحسن قراءة القرآن دون أن يكون مسلماً. هكذا ولد – كما يرى الطيب صالح- "مسني على ملة، ومات على ملة، وترك أبناء مسيحيين، وأرملة وأبناء مسلمين". (ص 10-11) بالرغم من هذا التحول العقدي الذي شهدته حياة منسي إلا أنه لم يفرض عقيدته الجديدة على أبنائه المسيحيين، لذا فنجد ابنه الأكبر سايمون يعلم الطيب صالح بموت أبيه، ويخبره بأنهم لم يقومون بدفن الجثمان، لأنهم ينتظرون إجراءات الحرق، وعندما يرد عليه الطيب بأن أباه "كان رجلاً مسلماً، وحرق الجثمان محرماً عند المسلمين"، يعترض عليه سايمون بقوله: "نحن لا نعلم عن إسلامه شيئاً. الذي نعلمه أن والدنا كان مسيحياً، وكان يقول لنا حين أموت أحرقوا جثماني".(ص 10) إلا أن أمر الدفن قد حسم في خاتمة المطاف عندما اتصلت زوجته المسلمة بوزارة الخارجية السعودية التي أشرفت على دفن مسني وفق الشعائر الإسلامية، ونشرت صحيفة الأهرام المصرية بأن أهله في صعيد مصر أقاموا القداس على روحه في الكنسية القبطية.
ويؤكد الطيب صالح أهمية هذا التسامح الديني في مقطع من مقاطع سيرته الذاتية المصاحبة لسيرة منسي: "وأذكر أن أبناء القبط كانوا يقرأون القرآن معنا في مدارس السودان، ويحضرون دروس الدين. وكان معنا قبطي يتلو القرآن بصوت جميل. وفي مدنية أم درمان حي يُسمي "المسالمة"، وهؤلاء أقباط هاجروا من مصر، وبعضهم دخل الإسلام، فتجد في العائلة الواحدة مسلمين ونصارى. وكذلك الحال في بلاد الشام وربما في العراق أيضاً. وفي لبنان، تكاد لا تجد فرقة من الفرق المتقاتلة، إلا وفيها المسلمون والنصارى. وأنا استعمل كلمة "نصارى" عمداً، فهذه هي الكلمة التي استعملها المسلمون والعرب طوال تاريخهم، وهى كلمة ليست فيها أية إيحاءات عدوانية، بل على العكس هي كلمة حافلة بالمودة والرحمة." (ص 161).
ويعضد هذه القيمة الإنسانية في مقطع آخر من مقاطع الحوار الذي دار بينه بين السيد أحمد عبد الرحمن المهدي في عمان بالأردن، إذ يروي الطيب صالح على لسان محاوره بأن وفداً من الحزب الشيوعي السوفيتي حل "ضيفاً على الحزب الشيوعي السوداني. ولما سمع السيد عبد الرحمن المهدي، نادى عبد الخالق محجوب أمين عام الحزب الشيوعي السوداني، وكان يحدب عليه ويعامله كإبنه لأنه كان صديقاً لوالده، وقال له: " يا عبد الخالق، أنا سمعت أن الشيوعيين الروس نزلوا ضيوفاً عليكم، وأنا أعرف أن حزبكم ما عنده قدرة ضيافتهم وإكرامهم. نحن يهمنا أن يأخذوا فكرة طيبة عن السودان وأن الشيوعيين في السودان ناس كرماء يقومون بواجب الضيف. كيف أنتو ماشيين تكرموهم؟" ويرد عبد الخالق قائلاً: "والله يا سيد نحن ما فكرنا في الموضوع دا... نكرمهم على قدر قدرتنا. يمكن نعمل لهم حفل شاي". فقال له السيد عبد الرحمن: "أبداً. حفلة الشاي مش كفاية. تعزموهم كلهم للعشاء هنا. نعمل لهم عشاء كبير عندي هنا." ويعلق الطيب صالح على هذا المشهد الذي يؤانس بين العلاقة الإنسانية والخصومة السياسية، بقوله: "هكذا اجتمع الشيوعيون، سودانيين وبلشفيك، على مائدة السيد عبد الرحمن المهدي رجل الدين وإمام طائفة الأنصار وراعي حزب الأمة... أولئك رجال من أمة خلت. رحمهم الله رحمة واسعة" (ص 145). وفقدان مثل هذا التسامح الديني والسياسي من وجهة نظره قد جعل السودان "لا يمر عليه وقت إلا وتجد فيه زعماء يحكمون، ولهم نظراء داخل السجون، وكأن العراء الشاسع لا يتسع لهم جميعاً في وقت واحد." وعند هذا المنعطف يمني الطيب صالح نفسه قبل أن يغادر هذه الحياة الدنيا "أن يرى زماناً يكون الناس فيه كلهم طلقاء، ولا يكون داخل السجون إلا القتلة الحقيقيون واللصوص الحقيقيون". (ص 144-145) "وحيئنذ سوف تطيب الليالي لسمَّارها، وتعود الطيور لأوكارها، وحتى ذلك الحلم العسير، حلم العودة إلى فلسطين لن يكون بعيد المنال." (ص 195).
ثانياً: البلطجة السياسية في بلاد العالم العربي
يضع الطيب صالح ثنائية النص الجاذبة في إطار عام عندما يستعرض بعض الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية في السودان والوطن العربي، وكيفية تداخلها مع أحداث العالم الغربي القائمة على منظومة المصالح الثابتة، والصداقات المتغيرة، والإرث التاريخي المشترك. وهنا يبرز الطيب صالح دور البلطجة السياسية عندما يتحدث عن تلك المحاضرة التي نظمها اتحاد طلبة جامعة لندن في أوائل الستينيات من القرن الماضي تحت عنوان: "هذا المجلس يوافق على أن تقوم دولة مستقلة للفلسطينيين في فلسطين"، وكان المحاضر فيها الأستاذ الجامعي ريتشارد كروسمان، الذي يصفه صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" بأنه من "مفكري اليسار المعدودين، ومن المنظرين الكبار في حزب العمال ... [ومن المنحازين] تماماً لوجهة النظر الصهيونية." (ص 60) وبقي أقل من ساعة على بدء المحاضرة، فيدور حوار طريف بين الطيب صالح وصديقه منسي، وهما في طريقهما إلى قاعة المحاضرة، ويعكس ذلك الحوار جملة من الدلالات الرمزية التي تجسد قيمة من قيم البلطجة السياسية في بلاد العالم العربي. إذ يقول منسي لصاحبه: "اسمع. قول لي بسرعة إية حكاية فلسطين دي". فيرد عليه الكاتب بقوله: "الله يخيبك. تقصد سوف تواجه ريتشارد كروسمان وأنت لم تستعد؟ ألا تعرف من هو ريتشارد كروسمان"؟ ويرد عليه صاحبه: "بلاش غلبه. بس أنت قول لي بسرعة إية حكاية وعد بلفور ومش عارف إية وشغل الحلبسة دا". ثم يرد عليه الكاتب ممتعضاً: "يا ابني دا مش لعب. هذه المناظرة مهمة جداً... فرصة نادرة لن تتكرر. الله يخرب بيتك. أنت مين اختارك لتكون ناطقاً باسم العرب؟" ويرد عليه منسي: "مالكش دعوة. بس أديني شوية معلومات وما تخافش عليَّ. قال ريتشارد كروسمان. طز! وإية يعني؟" والطريف في الأمر أن المناظرة انتهت لصالح منسي الذي "تكلم بجنان ثابت ولغة إنجليزية فصيحة. لكنه لم يقل شيئاً يجذب الاهتمام، وقد حاول أن يغطي جهله بقوله، إنه سوف يترك التفاصيل للفريق المساند له." (ص 60-61). "ولما عدَّت الأصوات، انتصر، ويا للعجب، الاقتراح الذي دافع عنه فارسنا "التعبان": وهو لا يعرف عن قضية فلسطين أكثر مما يعرف راعي الإبل في بادية كردفان. وكان ذلك دليلاً آخر أضافه منسي إلى ذخيرته، أن الصدق والمنطق واتباع الأصول، لا تجدي، إنما الذي يجدي في الحياة وفي قضية فلسطين وفي كل شئ، هو الأونطة وشغل الحلبسة. ثم يمضي الطيب ويقول: "لفتت تلك الليلة الأنظار إليه، ومنها نظر الرئيس جمال عبد الناصر الذي أرسلت له السفارة المصرية- حسب رواية منسي- تقريراً مدعماً بالصور كيف أن شاباً مصرياً "مسح الأرض" بأحد جهابذة السياسة في بريطانيا. ولعل ذلك كان صحيحاً فقد تلقى منسي دعوة لحضور مؤتمر للمغتربين المصريين وبذلك بدأت مرحلة جديدة في حياته." (ص 63).
فلا شك أن قصة هذه المناظرة لها أبعادها الرمزية ودلالاتها المعرفية التي تتجاوز قيد المكان الذي تشكلت فيه حيثياتها، وتخترق حجب الزمان التي زاوجت بين القديم الموروث والجديد المستحدث في بلاد العرب والمسلمين، حيث أن الصدق والمنطق واتباع الأصول، لا تجدي، إنما الذي يجدي في تصريف شؤون الناس الحياتية هو الأونطة وشغل الحلبسة، لذا فإن هذا الواقع جعل تلك البلاد موطناً للحروبات الدائمة، والفقر المدقع، والعنت السياسي الذي افرغ العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم من محتواه الوظيفي، وجعل الصراع محتدماً بين زعماء يحكمون، ولهم نظراء داخل السجون.
ثالثاً: الإعلام العربي وصورة العرب المشوهة في العالم
لا تقف الدلالات الرمزية في هذه السيرة المزدوجة حكراً على شخصية منسي ذات المواهب المتعددة التي تبدو متناقضة أحياناً ومتكاملة أحياناً أُخر، لأنها استطاعت أن تزاوج بين الذكاء، والتفوق الحقيقي، والتظاهر بالمعرفة، والنجاح من خلال عقلية تجارية تعرف من أين يؤكل الكتف، وبين الوقاحة والاحتيال والجرأة، وبين الكرم، ومساعدة الآخرين، والضحك، والصبيانية، والرفقة المسلية في الغالب، بل تعدَّتها إلى تجربة الطيب صالح نفسه، التجربة التي جعلته يصل إلى قناعة تامة بأن صورة العرب المشوهة في العالم لا يمكن أن يُزال ماران عليها من تشوهات وشبهات إلا عن طريق جهاز إعلامي فاعل. وفي هذا يقول: "لقد أخذت قطر قرارات مؤتمرات وزراء الإعلام العرب مأخذه الجد، وكل الكلام عن صورة العرب المشوهة في العالم، وانبرت، نيابة عن الدول العربية، لدراسة إمكانية إنشاء مؤسسة إعلامية كبرى، على نمط المؤسسات العالمية الكبيرة، مثل مؤسسة فورد وروكفلر والمجلس البريطاني ومؤسسة جوته الألمانية، والمؤسسات الثقافية والإعلامية في فرنسا والسويد واليابان. وكان الهدف، أن تقوم هذه المؤسسة العربية بتمويل ضخم، من الدول العربية البترولية خاصة، وتنطلق في العمل في آفاق الإعلام الرحبة والثقافة والفكر والفن، ناقلة حضارة العرب بكل تراثها وتنوعها، في ماضيها وحاضرها، إلى شتى أرجاء المعمورة. بمعني آخر، أن يصبح العرب مشاركين فاعلين في سوق الأفكار المطروحة في العالم، ومساهمين بما عندهم في مائدة الحضارة الإنسانية، بدل أن يكونوا عالة على الآخرين، يأخذون ولا يعطون. تصور أي حلم رائع لو أنه تحقق. وكان القصد أيضاً أن تكون هذه المؤسسة مستقلة تماماً، تتحرك بلا قيود ولا حدود في إطار الهدف السامي المتفق عليه أصلاً. ولا بد لي من القول، إحقاقاً للحق، إن سمو أمير دولة قطر تحمس لهذه الفكرة حماسة بالغة، وأيدها تأييداً مطلقاً.
هكذا اختارت دولة قطر رجل الإعلام الكبير، الأستاذ محمود الشريف، وقد كان مديراً لوزارة الإعلام القطرية قبلي، ليسافر إلي أمريكا، وانتدبتني لأسافر للهند وأستراليا واليابان وبعض دول أوروبا الغربية. وقد كلفنا بأن نتعرف على الصورة العربية في تلك البلاد، ونلم بأنماط المؤسسات التي على غرار المؤسسة العربية المرجوة. وقد رأينا عجباً. وئد الحكم في مهده لسوء الحظ، ولم ترتفع الهمم إلى مستوى الطموح النبيل." (ص 148-149)
ولاشك أن هذا المشهد يعكس نمطاً أخر من أنماط العقلية العربية التي تحركها العواطف، وبفعل هذه العواطف تتحول الأفكار الموضوعية إلي مشروعات عملية جادة، توضع لها الخطط والبرامج والدراسات من قبل المختصين والخبراء، وتصرف فيها الأموال الطائلة، إلا أن مثل هذه المشروعات سرعان ما توأد في مهدها بمعاول العواطف المعاكسة التي لا تنطلق من نظرة واقعية، بل ترتكز إلى أرث البلطجة والحلبسة الذي جعل بلاد العرب والمسلمين تسير سيرة عرجاء في أوحال واقعها المعيش.
خاتمة
هذه الدلالات الرمزية الثلاث التي أشرنا إليها أعلاه هي عبارة عن ملاحظات منتقاة من مواقف سيرة منسي وأحداثها، التي لا يمكن اختصارها أو اختزالها في صفحات معدودات، لأنها لا تقبل التشظي والتفطر، لكونها كتلة واحدة متجانسة ومتكاملة، يربط بينها السرد الواقعي لمفردات السيرة المزدوجة، ويعطيها أسلوب الطيب صالح المتفرد طعماً ومذاقاً خاصاً، لأنه أسلوب ينعم بالعمق، والمفاجأة، والسخرية، واللباقة، والدفء، حيث ينفذ إلى وجدان القارئ من خلال منافذ متنوعة ومسارات متعددة، تجعل الجميع يختلفون حول ماهية النص وتصنيفه: هل هو رواية من نسج خيال الطيب صالح الخصب؟ أم هي سيرة ذاتية للطيب صالح وأن منسي يشكل جزءاً من هموم صاحب السيرة وقيم المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه؟ أم هي نمط مبتكر من السرد الروائي؟ كل هذه التساؤلات تساؤلات مشروعة، تفتح المجال واسعاً أمام خيال القارئ الحصيف، وتؤكد في الوقت نفسه أن للسيرة أبعاداً غير مرئية، إلا أنها تنداح لمزيد من التذوق والحركة، ولجملة من الفرضيات التي تقود القارئ إلى نتائج متباينة. وعند هذا المنعطف تكمن قيمة سيرة منسي الإبداعية، لأنها تدر على النص كماً مهولاً من المفاهيم والقيم والعلاقات الاجتماعية، وتجعله أيضاً يكتسب قيمة اكتنازية فائقة، تمكنه من تتجاوز المعاني اللفظية للمفردات وللأحداث التاريخية المنتقاة التي شيد الراوي حولها صرح عمله الفني المبدع. وفي الختام يسرني أن أسدى الشكر أجزله إلى الأخ الصديق محمود صالح عثمان صالح على هذه الهدية القيمة التي تستحق أكثر من قراءة فاحصة، لأنها تذخر بكثير من الدلالات الرمزية.
--------------------------------------------------------------------------------