قـصة زول اكــل اضـنـيـنـو
تراصت التاكسيات الصفراء الأنيقة ومعظمها من ماركة هيلمان وكونسول وموسكوفيتش في طابور طويل أمام زنك الخضار في وسط الخرطوم انتظاراً لركاب بحري ممن يفضلون الطراحات، وجلس السواقين يحتسون الشاي والقهوة التي تجيد إعدادها (فطومه) يتجاذبون الحديث في هموم مهنتهم ثم يتناقشون في السياسة كالمعتاد، وهو طبق يومي لا بد من تناوله خاصة أن حولهم في كل جدار وحتى على زنك الخضار واللحمة ملصقات المرشحين للانتخابات (انتخبوا حامد شاكر الرمز الفيل، انتخبوا عبد الجليل المحامي الرمز القطية، انتخبوا…) وكان ذلك بعد ثورة أكتوبر 1964م..
- نفر بحري ، نفر واحد.. نفر والسفر.. يللا يا مبارك عربيتك تمت
ينادي عم حسن الكمسيونجي ، فيتحرك مبارك نحو عربيته وهو لا زال يصيح مدافعاً عن حزبه إلى أن يقعد وراء مقود التاكسي ويدير المفتاح، حينها يلتفت الى الركاب :
- معليش يا جماعة، السلام عليكم، الجماعة لخمونا بالكلام.
ثم ينطلق بسيارته مواصلاً نفس النقاش مع الركاب، تاركاً خلفه حلقة النقاش ساخنة، الى أن قطعها سراج:
- يا اخوانا خلونا من الكلام قوموا اتوضوا للصلاة.
واستخرج كل واحد إبريقه من ضهرية العربية وبدؤوا يتوضأون، وخلع جبريل عمته المكروبة بشدة على رأسه وإلى ما تحت أذنيه ووضعها على ركبته ليمسح رأسه، وبدأ شكله غريباً إذ كان رأسه بلا تضاريس جانبية، أي كان بلا أذنين.. وبسرعة أعاد العمة الى رأسه بعد مسحه، وفي هذه اللحظة مرّ صبي صغير فأرعبه منظر الرجل بلا أذنين فخطا مسرعاً بعيداً عن المكان وهو يلتفت خلفه خائفاً من هذا المخلوق الغريب، ولفت ذلك نظر السواقين، وكان بعضهم قد لاحظ من قبل أن جبريل بلا أذنين، ولكنهم كانوا محرجين من سؤاله.
صلوا صلاة الظهر جماعة على سباته، وعقب الصلاة وبعد التسبيح والدعاء، فاجأ عبد الودود جبريل بالسؤال الذي كان يتردد في طرحه منذ زمن، وأخرجه على لسانه موقف الطفل الخائف:
- الولد خاف منك يا جبريل.. ما قلت لي، إضنينك مشن وين؟
ويبدو أن جبريل كان يتوقع السؤال منذ زمن أيضاً،
- أكلتهن في بطني دي
أجاب وهو يضع يده على بطنه كأنه يؤكد ما يقول، ورغم ذلك ظن الجميع أنه يمزح، فعاودوا السؤال:
- بالجد إضنينك راحن وين؟
فكرر الإجابة :
- أكلتهن في بطني دي،
وذهل الجميع :
- كيفن يا زول أكلتهن في بطنك؟
فرد جبريل :
- حأحكي ليكم حكايتن
- ود أحمد؛ عربيتك تمت، قوم ودي الركاب
صاح الكمسيونجي، فرد ود احمد بعصبية ظاهره
- هو ده وقته، دقيقة يا جماعة، جاييكم، جاييكم، يللا قول يا جبريل
ولكن جبريل لم يبرد بطنه :
- الحكاية طويلة يا ود أحمد، قوم ودي الركاب ولامن تجي بعدين أحكي ليك..
- يا اخواني سيد العربية دي وينو؟ ما يجي يتحرك، الحر كتلنا
جاء صوت إحدى الراكبات المتذمرات من داخل تاكسي ود احمد، فقام ود احمد الى عربيته وهو يطنطن، إذ ستفوته الحكاية والقصة..
- أنا زمان في الأربعينات كنت رباطي وقاطع طريق
بدأ جبريل الحكاية وآذان السواقين صاغية باهتمام، ووضعت فطومه ست الشاي- التي تجلس على مسافة منهم- كفها حول أذنها لتسمع بوضوح ما يقال، وقد فوجئوا بتلك المهنة التي ذكر جبريل أنه كان يمتهنها، فقاطعه محمد خير :
- قطّاع طريق عديل كدي، اتاريك همباتي ونحن ما عارفين
وبعد ضحكة قصيرة واصل جبريل :
- كان عاجباني روحي بلحيل، وكنت صبياً متعافي، وفارس في المبارزة بالسيف، وما كان فيّ زول بفلت من إيدي، أحياناً كنت أبارز الثلاثة والأربعة في وقت واحد وأقلع العندهم وركوبتهم، المهم استمر الحال على كده لغاية ما يوم قطعت طريق مسافر ومعاهو مرتو، فقلت في نفسي ده دورو ساهل، فطلبت منو اللي عندو فسخر مني وقال لي أمشي ألعب بعيد يا وليد، أنا أخوك يا حليمه، الحكاية دي زعلتني، رفعت سيفي عشان أخوفو، طلّع سيفو هو كمان، بدت المبارزة، لقيت زولي ما هو هين، قلت الحكاية باين إنها جد، قدر ما بارزت الزول ده ما لقيت فيه فرقة تب، كلما أقول اتمكنت منو وأضرب بالسيف ألاقيهو نطّ أعلى من كتفي وسيفي يضرب الهواء تحتو. لما تعبت خلاص وغلبني أعمل فيهو حاجه قعدت في الواطه وختيت سيفي قدامي..
- يعني سلمت
قاطعه سراج
- أيوه سلمت، فارس زي ده ما مرّ علي أبداً، الزول شال سيفي ختاهو بعيد وطلّع سكينو وحزّ إضنيني الاثنين، وقطعهم حتت وقال لمرتو جيبي الدقه، خت لي الدقه قدامي وجنبها إضنيني المقطعات وقال لي اكلن، يا تاكلن يا أقطع راسك بالسيف.. أكلتهن
- اكلت إضنيك؟
سأل محمود باشمئزاز واضح
- أيوه أكلت إضنيني
أكد جبريل
- عوع
جاء صوت فطومه ست الشاي كأنها على وشك أن تتقيأ ما في بطنها
- هسه إضنينك في بطنك
عقّب سراج
- كانن في بطني، لكن زمان نزلن في المستراح
أهه كمل الحكاية
قال محمود يستحثه على مواصلة الكلام
- بعد داك الفارس خلاني مشيت، لكن بلا إضنين- وأنا القايل نفسي فارس الفرسان، أتاري حواء والده- ومن ديك توبة يا حبوبه.