(1)
البيت السعيد
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وأصلحوا ذات بينكم، فكثير من الناس يطلب السعادة ويتلمس الراحة وينشد الاستقرار وهدوء النفس والبال، كما يسعى في البعد عن أسباب الشقاء والاضطراب ومثيرات القلق ولا سيما في البيوت والأسر. وذلك لا يتحقق إلا بالإيمان بالله وحده والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه مع الأخذ بما وضعه من سنن وشرعه من أسباب. وإن من أعظم ما يؤثر في ذلك على الفرد وعلى الجماعة بناء الأسرة واستقامتها على الحق، فالله سبحانه بحكمته جعلها المأوى الكريم الذي هيأه للبشر من ذكر وأنثى. يستقر فيه ويسكن إليه، يقول جل جلاله وتقدست أسماؤه ممتناً على عباده: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
(2)
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مما يؤكد معنى الاستقرار في السلوك والهدوء في الشعور، ويحقق الراحة والطمأنينة بأسمى معانيها. فكل من الزوجين يجد في صاحبه الهدوء عند القلق والبشاشة عند الضيق. إن أساس العلاقة الزوجية الصحبة والاقتران القائمان على الود والأنس والتآلف، إن هذه العلاقة عميقة الجذور بعيدة الآماد، إنها أشبه ما تكون صلة للمرء بنفسه بيَّنها الله تعالى بقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، فضلاً عما تهيؤه هذه العلاقة من تربية البنين والبنات وكفالة النشء التي لا تكون إلا في ظل أمومة حانية وأبوة كادحة. وأي بيئة أزكى من هذا الجو الأسري الكريم.
عباد الله:
هناك أمور كثيرة يقوم عليها بناء الأسرة المسلمة وتتوطد فيها العلاقة الزوجية، وتبتعد فيها عن رياح التفكك وأعاصير الانفصام والتصرم. وأول هذه الأمور وأهمها: التمسك بعروة الإيمان الوثقى.. الإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من المُطَلِع على ما تُكِنّه الضمائر ولزوم التقوى والمراقبة، والبعد عن الظلم والتعسف في
(3)
طلب الحق. ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. ويقوي هذا الإيمان.. الاجتهاد في الطاعة والعبادة والحرص عليها والتواصي بها بين الزوجين. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ». أخرجه أحمد وأبو داود. إن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة دنيوية مادية، ولا شهوانية بهيمية، إنها علاقة روحية كريمة. وحينما تصح هذه العلاقة وتصدق هذه الصلة فإنها تمتد إلى الحياة الآخرة بعد الممات قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ. وإن مما يحفظ العلاقة ويحافظ عليهـا.. المعاشرة بالمعروف، ولا يتحقق
(4)
ذلك إلا بمعرفة كل طرف ماله وما عليه. وإن نشدان الكمال في البيت وأهل البيت أمر متعذر، والأمل في استكمال كل الصفات فيهم أو في غيرهم شيء بعيد المنال في الطبع البشري. ومن رجاحة العقل ونضج التفكير, توطين النفس على قبول بعض المضايقات والغض عن بعض المنغصات، والرجل وهو رب الأسرة مطالب بتصبير نفسه أكثر من المرأة، وقد علم أنها ضعيفة في خَلقْها وخُلُقها إذا حوسبت على كل شيء عجزت عن كل شيء، والمبالغة في تقويمها تقود إلى كسرها، يقول المصطفى «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» رواه البخاري. فعلى الرجل ألا يسترسِلَ مع ما قد يُظهِرُ من مشاعر الضيق من أهله، وليصرف النظر عن بعض جوانب النقص، وعليه أن يتذكر ولا يتنكر لجوانب الخير وإنه لواجد في ذلك شيئاً كثيراً. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رواه مسلم. وليتأن في ذلك كثيراً فلئن رأى بعض ما يكره فهو لا يدري أين
(5)
أسباب الخير وموارد الصلاح. يقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وكيف تكون الراح ؟ وأين السكن والمودة؟ إذا كان رب البيت ثقيل الطبع سيء العشرة ضيق الأفق، يغلبه حمق ويعميه تعجل. بطيء في الرضا سريع في الغضب، إذا دخل فكثير المنِّ وإذا خرج فسيء الظن، وقد عُلمَ أن حسن العشرة وأسباب السعادة لا تكون إلا في اللين والبعد عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها. إن الغيرة قد تَذهَبُ ببعض الناس إلى سوء ظن.. يحمله على تأويل الكلام والشك في التصرفات، مما ينغص العيش ويقلق البال من غير مستند صحيح. والله تعالى يقول: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ.. أما المرأة المسلمة فلتعلم أن السعادة والمودة والرحمة لا تتم إلا حين تكون ذات عفة ودين تعرف ما لها فلا تتجاوزه ولا تتعداه. تستجيب لزوجها فهو الذي له القِوَامَةُ عليها يصونها ويحفظها وينفق عليها، فتجب طاعته وحفظه في نفسها وماله، تتقن عملها وتقوم به وتعتني بنفسها وبيتها. فهي زوجة صالحة وأم شفيقة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، تعترف بجميل زوجها
(6)
ولا تتنكر للفضل والعشرة الحسنة ويحذر النبي من هذا التنكر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبيُّ «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ». قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» أخرجه البخاري. فلا بد من غفر الزلات والغض عن الهفوات. لا تسيء إليه إذا حضر ولا تخونه إذا غاب. بهذا يحصل التراضي وتدوم العشرة وتسود الألفة والمودة والرحمة. و الرسول يقول «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ» رواه ابن ماجة والترمذي وبحصول الوئام تتوفر السعادة، ويتهيأ الجو الصالح للتربية، وتنشأ الناشئة في بيت كريم مليء بالمودة عامر بالتفاهم. بين حنان الأمومة وحدب الأبوة. بعيد عن صخب المنازعات والاختلاف وتطاول كل واحـد على الآخر. فلا شقاق ولا نزاع ولا إساءة إلى قريب أو بعيد. والمؤمنون يقولونَ في دعائِهِم كما وصفهم الله تعالى بقولِهِ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
(7)
الحديث :
روى الإمام البيهقي في السنن عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) منقول من موقع المنبر .
(
الخطبة الثانية
الحمد لله الولي الحميد الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره وعد من شكره بالمزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبيينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد عباد الله :
اعلموا أن صلاح الأسرة طريق أمـان الجماعة كلها، وهيهات أن يصلح مجتمع وهت فيه حبال الأسرة. كيف وقد امتن الله سبحـانه بهذه النعمة. نعمة اجتماع الأســـرة وتآلفها وترابطهـا، فقـال سبحـانه وتعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ زْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ. إن الزوجين وما بينهما من وطيد العلاقة، وإن الوالدين وما يترعرع في أحضانهمـا مـن بنين وبنات، يمثلان حاضر الأمة ومستقبلها، ومن ثَمَّ فإن الشيطان حين يُفلِحُ في فك روابط أسرة فهو لا يهدم بيتاً واحداً ولا يحدث شراً محدوداً، وإنما يوقع الأمة جمعاء
(9)
في أذى مستعر وشر مستطير والواقع المعاصر خير شاهد. فرحم الله رجلاً محمود السيرة، طيب السريرة، سهلاً رفيقاً وليناً رؤوفاً، رحيماً بأهله حازماً في أمره، لا يكلف شططاً ولا يرهق عسراً، ولا يهمل في مسؤولية. ورحم الله امرأة لا تطلب غلطاً ولا تكثر لغطاً صالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله. فاتقوا الله عباد الله فإنه من يتق الله يجعل له من أمره يسراً. وصلوا وسلموا معشر المسلمين علي سيد الأولين والآخرين فقد أمركم بذلك الجليل العظيم فإنهما وقايتان من فتن الدنيا وعذاب الجحيم قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وآل بيته الطاهرين، وعن جميع أصحاب نبيك والتابعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم أخذل اليهود ومن والاهم، اللهم فرق كلمتهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أنزل الرعب في قلوبهم، اللهم عليك بهم يا الله، اللهم آمنا في أوطاننا،
(10)
وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم أشفي مرضانا وأرحم موتانا اللهم أرحمنا إذا صرنا إلي ما صاروا إليه يا رب العالمين رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
قوموا للصلاة يرحمُكمُ الله
* * *