التكفير في السودان إلى أين؟
الزبير محمد علي
سودنايل
الغلو في التكفير، آفة من الآفات الفتاَكة التي تواجه العمل الإسلامي المعاصر من الداخل؛
وهو أحد أوجه التطرف الذي يشف عن نزعة استعلائية متعصبة تسئ الظن بالآخر، وتُورث
إعجاباً بالذات لدرجة قد تصل حد الغرور. نزعة تجعل رأي البشر في مقام قداسة الوحي على
نحو ما قال الكرخي- أحد فقهاء الأحناف- "كل آية أو حديث يُخالف ما عليه أصحابنا فهو
مؤول أو منسوخ"1.
الحقيقة التي لاريب فيها أن التكفير بدعة خوارجية مُوغلة في اتباع الهوى، ومُسرعة في اتهام
الآخرين بالسوء في أحيانٍ كثيرة بغير بينة، وهي نزعة شيطانية على رأي ابن القيم "ما أمر
الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله
وسط بين الجافي عنه والغالي فيه" 2.
بدعة ظهرت في أيام الفتنة الكُبري، عندما وقع الانقسام بين مُعسكري معركة الجمل، فخرجت من
رحم ذلك الانقسام تلك الفرقة التي سُميت بالخوارج؛ هذه الفئة بلغت في التنَطُعِ مبلغاً
أوصلها إلى تكفير مرتكب الكبائر إذا مات ولم يتب توبةً نصوحاً. ولم تقف عند هذا الحد؛ بل
كفَرت نفراً من الصحابة أبرزهم علي وعائشة بحجة تحكيم الرجال في دين الله.
نُقاتل من يُقـــاتلنا ونرضــــى بحكــم الله لا بحكـم الرجـال
وفارقنــــا أبـا حســـــنٍ علياً فما من رجعة أخرى الليالي
وقد حكم في كتاب الله عمرا وذاك الأشعريُ أخا الضلال
ليس مهماً هُنا أن نبحث عن الملابسات والظروف التي قادت هؤلاء إلى تشكيل هذا الموقف، ولعل
الأهم بالنسبة لنا معرفة: من ساهم في إحياء تلك البدعة الخوارجية في العصر الحديث؟ وما
الذي أيقظ فتنة التكفير من مرقدها الأول إلى عصرنا الحالي؟
يري الدكتور محمد عمارة أن أبا الأعلي المودودي انفرد من بين المحدثين ببعث هذا الشعار- أي
تكفير المسلم- من مرقده القديم، ولم يكن ذلك انحيازاً فكرياً منه إلى فكر الخوارج، فرفضه
لأفكارهم الأساسية واضحٌ لا شك فيه، وإعجابه بابن تيمية يفوق إعجابه بأيٍ من المجددين
الذين عرفهم تاريخ الإسلام، ولابن تيمية موقفٌ صريح وحاد ضد الخوارج ومقولاتهم3.
وبذات الأسلوب الذي ابتدعه المودودي في نظرته للمجتمع الإسلامي، أفرزت التجربة الناصرية
في مصر موقفاً لا يختلفُ كثيراً عن الموقف السابق. موقف عبر عنه سيد قطب بصورة أشد من النسخة
المودودية، عندما رأى في تأييد المجتمع المصري للقيادة الناصرية كفراً لا يقف عند المجتمع
فحسب؛ بل يشمل الأمة والمجتمع جميعاً، بحجة إشراكهما في الحاكمية من هو دون الله، وهذه- في
رأيه - جاهلية أعظم من الجاهلية الأولى التي عاصرها الإسلام.
لانود أن نُحاكم هذه الأفكار استناداً على قطعيات الوحي؛ إننا إن فعلنا ذلك لتبيَن
مخالفتها للنصوص المُحكمة؛ ولكن نود فقط أن نعرضها قياساً على مواقف الفقهاء لنرى
الفرق:
تناظر الشافعي وأحمد في حكم تارك الصلاة. قال الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفُر؟ قال:
نعم. قال: إذا كان كافراً بم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الشافعي:
فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه. قال: يُسلم بأن يصلي. قال: صلاة الكافر لا تصح، ولا يحكم
له الإسلام بها. فسكت الإمام أحمد 4.
وهذا يضعنا أمام تساؤلات حقيقية؛ إذا كان أئمة السلف أنفسهم اختلفوا في كفر تارك
الصلاة، فكيف نستحل الكفر لما هو دون ذلك؟ وما الذي دفع المودودي وقطب إلى تكفير المجتمع
الملتزم بأركان الإسلام الخمسة، فقط لأنه لم يُقِم الحاكمية السياسية؟ وهل هناك ثمة ظروف
استثنائية قادت إلى هذا الاجتهاد الشاذ، أم أنه نبت في مُناخ طبيعي؟
من السذاجة بمكان أن نقرأ أفكار هذين الأُستاذين دون الإحاطة بالمُناخ الاستثنائي الذي
قادهم إلى تشكيل هذا الموقف. فالمودودي واجه موجةً هندوسية شكلت خطراً على الهوية الإسلامية
في شبه الجزيرة الهندية. وسيد قطب واجه محنة القهر والبطش الذي شهدته مصر إبان الحقبة
الناصرية، ومن يقرأ مؤلفات قطب قبل ذلك الوقت يُدرك الإنقلاب الفكري الكبير الذي حدث
لآرائه في تلك الفترة؛ وتلك قضية لها مبحث آخر.
القضية الأهم في مبحثنا، هي أن البذور الخوارجية المودودوقطبية بدأت تنبت في التربة
السودانية بصورة مُغلقة، وصار الإنزلاق في هاوية التكفير شيئاً طبيعياً في الساحة الفكرية
السودانية، وإليك بيان الحالة في فتاوي الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة، والتي أفتت في
وقتٍ سابق بتكفير:
• الإمام الصادق المهدي على خلفية المؤتمر النسوي لحزب الأمة في فبراير 2009م.
• د. حسن الترابي على خلفية الفتاوي التي أصدرها بشأن المرأة.
• الحزب الشيوعي على المستوي التنظيمي؛ أما الأفراد فهم أيضاً كُفار وإن صلَوا وإن صاموا،
ويترتب على ذلك أن زواج الشيوعي من المسلمة زنا!
• الحركة الشعبية ومن ينتمي إليها.
وفي تطورٍ غريب أصدر نفرٌ من العلماء في العالم الإسلامي بياناً عن الحالة السودانية في يناير
الماضي جاء فيه:
• إن الغرب يُريد للسودان أن يكون تابعاً وذليلاً، إحدى آليات هذه الذلة: تغيير شعار
الإسلام الذي ترفعه دولته! وتغيير النظام عن طريق الانتخاب السلمي لمن يرضى الغرب عنه!
• تحريم انتخاب من لا يسعى لإقامة شرع الله في حياة الناس.
• لا ينبغي الركون إلى التحالفات مع العلمانيين والمنافقين.
• تقرير المصير مرفوض شرعاً، فلا يجوز الوفاء به 5.
الحسنة الوحيدة في هذا الأمر أن هذه النماذج لم تتجاوز حد الفتاوى والأفكار، إذ أنها لم
تدخل دائرة العنف والاغتيال كما حدث في بلدان إسلامية كثيرة. ولكن الحرب أولها كلام، وليس
هناك ما يضمن عدم تحول هذه النماذج الكلامية إلى دائرة الاغتيال والعنف، لا سيمَا أن
الأفعال تبدأ بالأفكار، والدكتور يوسف القرضاوي يرى أن التكفير مرحلة أخيرة تسبُقها
المظاهرالآتية:
• التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر.
• إلزام جمهور المسلمين بما لم يلزمهم الله به.
• التشديد في غير محله.
• الغلظة في التعامل، والخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة.
• سوء الظن بالناس، والنظر إليهم من خلال منظار أسود، والغرور بالنفس، وازدراء
الآخرين.
• السقوط في هاوية التكفير 6.
وبما أن هناك مظاهر تسبُق مرحلة التكفير كفتوى؛ فهذا يعني أن الفتوى التكفيرية مرحلة في
طريق استباحة الدماء المعصومة، واستحلال التفجير باسم الجهاد على نحو ما فعلت الجماعة
للإسلامية في مصر.
إذاً نحن أمام موقف حرج. موقف يضع التسامح الذي اقترن بتدين أهل السودان على المحك، ويجعل
دماء المسلمين رخيصة في أسواق التكفيريين الجدد كما حدث في مسجدي الثورة والجرافة. وهنا نجد
أنفسنا أمام تساؤلات مهمة: ما الذي قاد الساحة الفكرية في السودان إلى هذا النفق
الضيق؟ وما المصدر الذي تسربت منه هذه الأفكار- خاصةً- أن السودان في تاريخه لم يمر بهذه
التجربة؟ وهل سيطيح نهج التكفيريين الجدد بالنموذج التسامحي السُوداني؟ ثمَ ما المخرج من هذا
الانحراف الفكري؟
سوف أترك الإجابة عن الأسئلة الأولى لوقتٍ آخر لتشعُب الموضوع، وسأكتفي بالإجابة عن السؤال
الأخير.
أتصور بشكل عام أن الخروج من هذه الهاوية يتطلب تأسيس خُطة خُماسية الأشعُب بيانها:
• إصدار تشريعات جنائية تُجرم التكفير الصادر من أشخاص أو جماعات، وإحالة الملف "في هذه
الأمور لمحاكم مؤهلة وعبر اتهامات محددة وإلا فمن يخوض في هذه الأمور يُعاقب عقاباً رادعاً" 7.
ولا يعني ذلك أن نقبل بالمحاكم المُسيَسة كما حدث لمحمود محمد طه، ولا التسييس الذي لحق بالجهاز
القضائي السوداني الآن؛ بل ندعو لإنشاء محكمة خاصة لهذا الأمر نسبة لخطورة الموقف، على أن
تتولى إدارة هذه المحكمة شخصيات قانونية مؤهلة تجد القبول من الجميع.
• ولئن اتفقنا أن للمحاكم دوراً في كبح جماح هذه الظاهرة، فلا يعني ذلك أن نُسلَم كل
الملفات للمحاكم؛ وهنا يجب الاستفادة من نموذج بن عباس في مناظرته للخوارج، كما أن
المراجعات التي أصدرها الجهاديون في مصر يجب أن تُشجعنا على قيادة حوار فكري مع هذه
الفئات؛ لأن كثيراً منهم يندفع إلى هذا المعترك بنية التقرب إلى الله!.
• تكوين مؤسسة لرعاية الإجتهاد تضم كافة الجماعات الإسلامية، بجانب وجود عُلماء يُمثلون كل
ألوان الطيف التخصُصي 8. وفي رأيي أن هذا المقترح مهم للغاية؛ ذلك أن المستجدات التي تطرأ
على الساحة الإسلامية متنامية، وهي مستجدات تتصل بالجانب السياسي، والاقتصادي، والدولي،
والقانوني، ولا ينفع في هذه المجالات أن نأخذ بآراء عُلماء لا باع لهم في هذه التخصُصات.
• مراجعة المناهج الشرعية للمراكز الإسلامية في السودان، وتحصين طلاب العلم الشرعي بالمناهج
الشرعية التي تُشكل دروب الاعتدال، وتمكين أدب الإختلاف الفقهي، والفكري، والبيئي، والجُغرافي
حتى لا يقع هؤلاء فريسةً لأفكار هدامة تؤثر على الوحدة الوطنية، وعلى حقوق المواطنة.
• نشر ثقافة الوسطية، وبسط نهج الاعتدال والحكمة عبر الوسائط الإعلامية المُختلفة، بجانب
تدريب أئمة المساجد وتحصينهم بهذا المنهج الذي يفتح لهم آفاق الحكمة والسعة التي دعا إليها
ديننا الحنيف.
قد يرى كثيرون أن الدعوة إلى بسط نهج الاعتدال، ومراجعة المناهج الشرعية دعوة أمريكية؛
ونحن نقول: من السذاجة بمكان أن نترك مبادئنا وقيَمنا لمجرد تبني الغرب لدعوات مُشابهة،
فالاعتدال والوسطية قيَم إسلامية أتى بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قبل أكثر من أربعة
عشر قرنا، ومن ينسب للغرب هذه الدعوات فقد شكره! عن جابر بن عبد الله قال: كُنا جلوساً
عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخطين عن يساره؛ ثم وضع يده في
الخط الأوسط وقال: هذا سبيل الله ثم تلا هذه الآية (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا
تتبعوا السُبل فتفرق بكم عن سبيله) 9. وقال أيضاً "إن الرفق ما يكونُ في شيء إلا زانه،
ولا يُنزع من شيٍء إلا شانه".10. والصحابة رضوان اللهُ عليهم فهموا هذا المنهج وامتثلوه في
حياتهم، سُئل الإمام علي عن أهل الجمل أهم مشركون. قال: من الشرك فروا، أمنافقون هم؟
قال: إن المُنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل له: فمن هم إذاً؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
وهناك أيضاً مقولة ذهبية منسوبة للإمام علي قال فيها "إذا قال الرجل كلمة لها تسعٌ
وتسعون وجهاً يحتمل الكفر، ووجهٌ واحدٌ يحتمل الإيمان لأخذنا بالوجه الواحد".
فهل يحسبن أحدٌ أن هذه المعاني الذهبية مقتبسة من الغرب؟! لا يبلغُ عدوٌ من جاهلٍ ما يبلغُ
الجاهلُ من نفسه!
[right]هوامش:
1الشيخ محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، دار الوفاء، 2000م.
2 ابن القيَم، مدارج السالكين. دار التوزيع والنشر الإسلامية 2003م.
3 د. محمد عمارة، الإسلام وضرورة التغيير، دار المعارف،2001م.
4 السيد سابق، فقه السنة الجزء الأول، دار الفكر، 1977م.
5 علماء وأكاديميون من بلدان العالم الإسلامي، بيان عن الحالة السودانية، موقع الإسلام اليوم، يناير 2010م.
6 د. يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، دار الشروق، 1984م
7 الإمام الصادق المهدي، بيان حول حادثة الجريف، صحيفة أجراس الحرية، 31 أغسطس 2009م.
8 الصادق المهدي، العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي، الزهراء للإعلام العربي، 1984م
9 رواه بن ماجة.
10 صحيح مسلم.