من معاني التضحية والفداء
الحمد لله حمداً يليقُ بجلالِهِ, وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا ونبيينا محمداً عبد الله ورسوله, خيرَ من تمثلت بِهِ الأخلاقُ الفاضلة, صلى الله عليه وعلى آلِهِ الطيبينَ الأطهار وعلى صحابتِهِ الأخيار, وعلى من تبعهم بإحسان, وسلمَ تسليماً كثيراً.
لا يمكن لأمة من الأمم، أن نتبوأ عرش العزة والمجد، إلا بعد ترويض نفسي، وتهذيب خلقي، وها هو التاريخ يعلمنا ويُشْهدنا أن رقي الأمم والشعوب، منوط بما يحمل أبناؤها من معاني التضحية والفداء. والبذل في سبيل الصالح العام بجود وسخاء، وهذه المعاني الرفيعة لا ترسخ في النفوس إلا بعد تثقيف وتعليم وإلا بعد تربية وترويض، وإذا نحن استعرضنا تاريخ الأمة العربية، وقد دخلت مدرسة الإسلام، لتثقف وتتربى على قواعده وعلى مبادئ القرآن تحت إشراف سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي ربى الأمة الإسلامية على عشق العلم والمعرفة، وعلى التفاني في البذل والتضحية وعلى مكارم الأخلاق وجميل الصفات، من صدق ووفاء وأمانة وإيثار وإخاء. وتقديس الواجب وعدم الفرار من المسؤولية، خاصة في ميدان الجهاد والنضال، فالمسلم المؤمن يتشوق إلى الموت في سبيل الشرف والجهاد، كما يتشوق الظمآن إلى ارتياد الماء، وتلك التربية الإسلامية التي جعلت المسلم يفرح بالإنفاق والإيثار أكثر من فرح البخيل الشحيح بجمع المال وبالادخار، إذا استعرضنا التاريخ لنرى نتاج هذه التربية الإسلامية للعرب وللمسلمين. فلا نعجب حينئذ أن نرى الأمة الإسلامية في هذه الدنيا، تمسك بزمام قيادة العالم، لتسير بقافلة البشرية إلى جنان الثقافة والعلم، والعدالة والإخاء، والحرية والإخاء.
إن أية أمة لا تستطيع أن تتبوأ عرش العزة والمجد، إلا إذا صاحب حياتها، علم وعقيدة صحيحة سليمة، وقوة وسلطان، يحرسان عقيدة الأمة ورسالتها، ويسهران على سلامتها، وإلا إذا صاحب الأمة تضحية وفداء. في سبيل الحفاظ على عقيدتها، والذود عنها. (بل ومن أجل نشرها في العالم بكل وسيلة ممكنة). لقد أشار النبي إلى العقيدة والسلطان. حيث يقول: (الإسلام والسلطان أخوان توأمان، لا يصلح أحدهما بدون الآخر فالإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له ينهدم وما لا حارس له يضيع)(رواه أبو داود).
وأما التضحية والفداء فقد تلقتهما الأمة العربية من تعاليم القرآن وهدي الإسلام والقدوة الحسنة بالنبي عليه السلام التي نشأ المسلمون عليها. تلك النشأة وتلك التربية التي جعلت الموت والاستشهاد في سبيل الله والمثل العليا أحب إليهم من الحياة. فمن أحاديثه صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله: «وددت لو أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا لما وجدت من رفيع درجة الشهداء عند الله عز وجل»رواه الحاكم عن أبي هريرة. ولما عرضت قريش شتى أنواع المغريات على النبي الكريم من الأموال الكثيرة والزعامة والرياسة. وتزويجه بمن يشتهي من الغيد الحسان. لقاء تجميد رسالته، وإيقاف نشر دعوته، وإلا فهو مهدد بخطر الموت والهلاك. عندئذ أجاب قريشاً بتلك الكلمات التاريخية الخالدة التي صارت بحق دستور التضحية والفداء للأمة العربية والمسلمين أجاب عمه أبا طالب وهو مع قريش قائلاً: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك ما بعثني الله به من النور والهدى، ما تركته إلا إذا فارق رأسي جسدي».
أيها الإخوة:
ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم معنى من معاني التضحية والفداء إلا وتحمله وبذله، لقد تحمل بنفس هادئة راضية الأذى والاضطهاد. والمقاطعة له ولأنصاره، فلا يبيع منهم ولا شراء ولا مزاوجة ولا نكاح. لقد رُجم بالأحجار حتى سالت الدماء على عقبيه فتحمل ذلك غير واهن ولا خائر وصودرت أمواله وداره فلم يحزن ولم ييأس، ودبرت المؤامرات المتنوعة لاغتياله فلم يهن ولم يحزن. لقد قدم سخياً راضياً كل ما يملك من مال وروح. وراحة ومهجة، مضحياً باذلاً كل ذلك في سبيل الله ولإعلاء كلمته. فعلم أصحابه البذل والتضحية والفداء بأقواله وأعماله وأخلاقه وسيرته. فهاهم المسلمون جميعهم في وقعة الحديبية. يعاهدون نبيهم على القتال حتى الاستشهاد لم يتخلف عن البيعة إلا شخص واحد مريض القلب ضعيف الإسلام وها هو صحابي في بعض المعارك يسائل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما الذي يضحك الرب من عبده وما الذي يرضيه؟ فيجيبه النبي الكريم قائلاً: «أن تقاتل في سبيل الله حاسراً غير دارع» فما كان من الصحابي الجليل إلا أن نزع درعه وألقاها ظهرياً وقذف بنفسه في لهيب المعركة، طلباً لتحقيق أمنيته، التي كان يتشوق إليها ألا وهي الشهادة والاستشهاد. وها هو عمرو بن الجموح، شيخ عجوز أعرج قد بلغ التسعين من العمر. يعارضه أولاده الشباب الشجعان، في التحاقه بصفوف المجاهدين. نظراً لسنه وضعفه. فلا ينتهي الأمر إلا بمراجعة رسول الله فيرد ابن الجموح على أولاده قائلاً: (إني لأطمع أن أدخل الجنة بعرجتي هذه) فيقول النبي الكريم لأولاده دعوه لعل الله يرزقه الشهادة وكان لعمرو ما أراد وتمنَّى.
أيها الإخوة:
إن الإسلام غرس التضحية والفداء بالمال والروح، في نفوس الكبار والصغار الرجال والنساء. والشيوخ والأطفال، حتى صارت التضحية سارية في عروق العرب والمسلمين ودمائهم وحتى صار البذل والفداء في سبيل الله والمثل العليا، جزءاً لا يتجزأ من نفوسهم وأفئدتهم، لقد فهم العرب والمسلمون هذه المعاني الرفيعة، من دروس القرآن وآياته، وعن أنبياء الله ورسله، الذي مثلوا أرفع معاني الجهاد والتضحية المسجلة على صفحات القرآن، فها هو إبراهيم خليل الرحمن ومجتباه. يذكر القرآن العظيم ثورته على الجهل والخرافات وعلى الظلم والاستبداد. مضحياً بنفسه وباذلاً حياته، من أجل نشر رسالة الله وإحياء أمته، فيقدم إلى النيران والجحيم، ليكون طعمة لها ووقوداً، تنكيلاً به وانتقاماً، وبينما نبي الله في هوية المنجنيق إلى النار إذ بملاك الله جبريل، يعرض له فاحصاً إيمانه ويقينه، فيقول له يا إبراهيم هل لك من حاجة، فيقول سيدنا إبراهيم: أما إليك فلا، فيقول جبريل: سل ربك، فيجيبه إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فإذا بالنداء الإلهي:
{قُلْنا يا نارُ كُوني بَرداً وسلاماً على إِبراهيم} [الأنبياء: 69].
ويطلبُ الله إلى إبراهيم ذبحَ ولده والتضحية به ليعلم الناس أن المؤمن الحق هو من قطع عن قلبه كل علاقة له بغير ربه، فما كان من إبراهيم إلا الطاعة والامتثال، وما كان من الله إلا الشكر والثناء وتقدير البذل والفداء.
قال تعالى:{فَلما أسْلما وتَلَّه للجَبينِ وناديناهُ أن يا إبراهيمُ قد صَدَّقتَ الرؤيا إِنا كذلكَ نَجْزي المُحْسِنين} [سورة الصافات: 103 ـ 106].
أيها الإخوة:
ولما نبتت بذرة الفداء والتضحية في نفوس المسلمين وتمت بفضل تعاليم القرآن وهدي النبي وتضحية إبراهيم الخليل عليه السلام عند ذلك أوجبت تعاليم الإسلام الأضحية في أيام العيد لتكون معونة للفقراء والمساكين. وشعاراً يذكر ويذكي روح التضحية في نفوس المؤمنين ومن أجل اجتماع المسلمين من كل أقطار الأرض في مكة المكرمة يحجون بيت الله الحرام، ذاكرين ربهم وتائبين إليه من ذنوبهم، ومتذاكرين فيه شؤون العالم وشؤونهم، لتحقيق السِلْم والعدالة، ومن أجل زيارة الحجاج هذا اليوم أيضاً لمنى. ذلك المكان المقدس، مكان ذكرى امتثال إبراهيم لأوامر ربه بالتضحية بولده وفلذة كبده. لينسج المؤمنون على منواله، ويتخذوا منه القدوة الصالحة ببذل أرواحهم وما يملكون في سبيل الله والمثل العليا، من أجل هذه المعاني الرفيعة اتخذ هذا اليوم عيداً للعرب خاصة وللمسلمين عامة أعاده الله عليهم وعلى العالم كافة بكل خير وهناء. كما حض النبي الكريم على الأضحية هذا اليوم توسعة على الأهل والفقراء في قوله: «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا»(رواه البخاري ومسلم).
وقال زيد بن أرقم: يا رسول الله، ما لنا في الأضاحي، فقال لكم بكل شعرة حسنة، قلت: فالصوف. قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة»الديلمي عن ابن عباس..