(1)
مقصد اليسر في شريعة الإسلام
الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونؤمن به حقا، ونتوكل عليه صدقاً، مفوضين إليه أمورنا، وملجئين إليه ظهورنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل، بشيراً بالنعيم المقيم، ونذيراً بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبهِ وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد عباد الله:
شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، أنزلها الله للناس كافة، في مشارق أرض الله ومغاربها، للذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والصحيح والمريض. ومن أجل هذا جاءت بفضل الله ولطفه وحكمته ميسوراً فهمُها، سهلا العملُ بها، تسعُ الناس أجمعين، ويطيقها كلُّ المكلَّفين. دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدّة، ويسرٌ من غير عسر، ورفع للحرج عن الأمة. التيسير مقصدٌ من مقاصد هذا الدين
(2)
وصفة عامّة للشريعة، في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها. فالله تعالى بمنِّه وكرمه لم يكلِّف عبادَه بالمشاقّ، ولم يُرد إعناتَ الناس، أنزل دينَه على قصد الرفق والتيسير.يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ.يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً. هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ. أحكام الشرع تَطبع في نفس المسلم السماحةَ والبعدَ عن التكلّف والمشقة، والتعلقَ الوثيق برحمة الله وعفوه وصفحه وغفرانه لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً. واليسرـ كلّ عمل لا يُجهد النفس، ولا يثقل الجسم، والعسر كلُّ ما أجهد النفس وأضرَّ بالجسم، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَيَسِّرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» رواه النسائي وعن محجن بن الأدرع قال: قال رسول الله «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ». رواه الإمام أحمد. وهذا شيء من بيان معالم اليسر ومظاهر التيسير،
(3)
تتجلى في كتاب الله العزيز، وفي سيرة نبينا وفي أصول الدين وفروعه. أما الكتاب العزيز فقد أنزله الله ميسَّرَ التلاوة، وميسَّر الفهم، وميسَّر التدبّر والذكر وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً. كتاب الله ميسَّر الحفظ، تدركه العقول، وترقّ له القلوب، يَلذُّ استماعه، ولا يُملُّ سماعه، وإن كان فيه من الأسرار ودقائق العلوم ما يختصّ به الراسخون من أهل الذكر. أما سيرة سيدنا رسول الله فقد بعثه الله رحمةً للعالمين أجمعين، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، حريص عليهم، عزيز عليه ما يُعنتهم ويشقُّ عليهم، يضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم، يقول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا». حديث متفق على صحته واللفظ لمسلم وهو الذي يقول عن نفسه عليه الصلاة والسلام: «لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّى». وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْفَرَائِضِ. أما أصول الدين وعقائده فقد جاءت ميسّرةً في
(4)
مطلوباتها، واضحةً في أدلتها، من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وكماله، والإيمان بالملائكة والكتب والنبيين، والإيمان باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. والدلائل على ذلك ظاهرة. أما أحكام الشرع فقد راعت أحوالَ المكلفين وظروفَهم من الصحة والمرض، والحضر والسفر، وأحوال الاضطرار، فأعظم العبادات وأجلها الصلاة المفروضة، رُبطت أوقاتها بطلوع الفجر وزوال الشمس وظلها وغروبها، وما بين المشرق والمغرب قبلة، وفي الطهارة إذا شق استعمال الماء انتقل إلى التيمم، ويصلي المسلم قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ «مَنْ هَذِهِ». قَالَتْ فُلاَنَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا. قَالَ «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا». وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. ومن أمّ الناس فليخفّف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة، والصيام مطلوب من الصحيح المقيم، رُخّص فيه الفطر للمسافر والمريض، ولا زكاة ولا حج ولا جهاد إلا على القادر المستطيع. والقلم مرفوع عن المجنون
(5)
والصبي والنائم، ورفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه. والأصل في الأشياء الحلّ والطهارة. والمشقة تجلب التيسير فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والسيئة بمثلها أو يغفر الله، والحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله. والمقصود من العبادات والطاعات استقامة النفس والمحافظة عليها من الانحراف والاعوجاج، وليس المقصود الاستقصاء ولا الإحصاء، ولكن سددوا وقاربوا، واستقيموا ولن تحصوا، وأتوا من الأعمال ما تطيقون. والاستقامة تحصل بمقدار سهل، ينبِّه النفسَ فتتلذّذ في العبادة، وإذا دخل العبد في المشقة والملل فقد لذةَ العبادة وابتعد عن بواعث الخشوع.
عباد الله:
حق على أهل الإسلام أن يسلكوا مسالك الرفق واللين والتيسير في الأمر كلّه، بلا مداهنة ولا مجاملة ولا مجافاة للحق والطريق المستقيم. عليكم بالتيسير والرفق، ولقد قال سيدنا موسى لسيدنا الخضر هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً. ثم قال: لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً. خذوا الناس باليسير من الأمر، لا تجشِّموهم المصاعب،
(6)
ولا تكلّفوهم عُسراً، بشِّروا ولا تنفّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وشريعة الله كلّها يسرٌ وسماحة، وميادين اليسر لا تقع تحت حصر، والتيسير في باب المعاملات والتعاملات من أوسع الأبواب وأهمِّ المطلوبات، فيسروا ـ رحمكم الله ـ في الحقوق المالية من المهر والنفقة والمطالبة بالدين والحقوق وإنظار المعسر، فمن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مسلم كربة نفَّس الله عنه من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. وعلى الولاة والآباء والأمهات والأزواج وكلّ ذي مسؤولية أن يرفق بمن تحت يده، ولا يأخذ إلا بحقّ، وليعفُ وليصفحْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ادفعوا بالحسنى، وإذا أردتَ أن تطاع فأمر بما يُستطاع، ولا تنفّر ولا تُشدد، وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
الحديث:
روى الإمام أحمد في المسند عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ». أو كما قال .
(7)
الخطبة الثانية
الحمد لله أحمده سبحانه وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء باليسر والرفق والتسهيل، صلـى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله:
فإن العسر والتشدّد والتنطّع كثيراً ما يدعو إليه قلةُ الفقه في الدين، والجهلُ بمقاصد الشرع وأصول الملة وضعفُ العلم. وقد يدعو إليه دافع من هوى النفوس وفي الحديث الصحيح: (ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فأوغلوا فيه برفق). واعلموا أنه كما يحرم على المسلم أن يضر بالناس يحرم عليه أن يضر نفسه، كأن يعرضها للخطر من غير مصلحة راجحة، قال تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وقد توعد الله من قتل نفسه بأشد الوعيد، قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وكذلك من تسبب في قتل نفسه أو إمراض جسمه أو الإخلال بعقله. ومن الإضرار بالنفس:
(
التشديد عليها وتعريضها للمشقة، وقد شرع الله لعباده شريعة سمحة لا حرج فيها، فقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ. وقال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. شرع لأصحاب الأعذار من المرضى والمسافرين والخائفين أحكاما تخصهم في الصلاة والصيام وتتناسب مع أحوالهم، وشرع لعباده الاقتصاد في العبادة مع المداومة عليها، فخير العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل. ونهى عن الغلو والتشدد، قال تعالى: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَّ الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ».. ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على ما ينفعكم في دنياكم وأُخراكم. واذكُروا على الدّوَام أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خاتَمِ النبيّين وإمَامِ المتّقين ورحمةِ الله للعالمين، فقالَ سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك
(9)
سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وآل بيته الطاهرين، وعن جميع أصحاب نبيك والتابعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم أخذل اليهود ومن والاهم، اللهم فرق كلمتهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم ، اللهم أنزل الرعب في قلوبهم، اللهم عليك بهم يا الله، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم أشفي مرضانا وأرحم موتانا اللهم أرحمنا إذا صرنا إلي ما صاروا إليه يا رب العالمين اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان واجعلنا من عُتَقائِهِ اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
* * *