بواعث محبته
الحمدُ لله الذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِ ليُظهرَهُ على الدينِ كلُِهِ, وبعثهُ رحمةً للعالمينَ, وهُدى للمُستَرشِدينَ, والصلاةُ والسلامُ على الرحمةِ المُهداةِ, سيدنا محمد عينَ الأعيانِ ومُعجِزةِ الإنسانِ, وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده الملكَ الديان, وأشهدُ أنَّ سيدنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولَهُ أكملَ إنسان, صلى اللهُ عليهِ صلاةً دائمة عددِ كمالِ الله وكما يليقُ بكمالِهِ, وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومن تبعهُ واهتدى بِهُداهُ .
أما بعد عباد الله :
هل علينا بحمد الله ربيع الخير شهر ميلاد المصطفى وسنتناولُ في هذه الخطبة بواعث حبِهِ فكلما ازددنا له حبا ازددنا إيمانا وقربا وطاعة لله. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني بحبّ الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي) رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. إن محبة
(2)
الرسول أصل عظيم من أصول الإيمان يتوقف على وجودِه وجودُ الإيمان، فلا يدخل المسلم في عداد المؤمنين الناجين حتى يكون رسول الله أحبّ إليه من الناس أجمعين، بل ومن نفسه التي بين جنبيه، يقول الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. ويقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. قال القاضي عياض: (فكفى بهذا حضّا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم
(3)
أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله. أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبي (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) وأخرج البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي (لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي (الآن يا عمر). كيف لا نحبه ونحتفلُ به والجبال والشجر تحبه وتسلم عليه ؟! عن علي بن طالب قال: كنا مع النبي بمكة فخرجنا معه في بعض نواحيها فمررنا بين الجبال والشجر، فلم نمرّ بشجرة ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي والحاكم صححه. وعن يعلى بن مرة الثقفي قال: بينا نحن نسير مع رسول الله فنزلنا منزلاً، فنام
(4)
النبي فجاءت شجرة تشقّ الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له ذلك، فقال (هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم علي، فأذن لها) رواه أحمد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي. وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله يصلّي إلى جِذع ويخطب إليه إذ كان المسجد عريشًا، فقال له رجل من أصحابه: ألا نجعل لك عريشًا تقوم عليه يراك الناس يوم الجمعة وتسمع من خطبتك؟ قال: (نعم) فصنع له الثلاثة درجات هنّ اللواتي على المنبر، فلما صنع المنبر ووضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله قال: فلما جاء رسول الله يريد المنبر مر عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدّع وانشق فرجع إليه رسول الله فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، وفي رواية: فلما قعد نبيّ الله على ذلك المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتجّ المسجد حزنًا
(5)
على رسول الله فنزل إليه رسول الله من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله سكن ثم قال: (أما والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة) رواه الإمام الدرامي: "والحديث صحيح على شرط مسلم وأصله عند البخاري وأحمد وغيرهما". كيف لا نحبه ونحتفلُ بِهِ وهو النور الذي يهدينا الطريق؟! يقول الحق تبارك وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. فهو من عرّف الأمةَ الطريقَ الموصل إلى ربهم ورضوانِه ودارِ كرامته، ولم يدع حسنًا إلا أمر به، ولا قبيحًا إلا نهى عنه. ويقول جل شأنه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. عن أبي سعيد الخدري قال: لما أصاب رسولُ الله الغنائمَ يومَ حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما
(6)
قسم، ولم يكن للأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجدَ هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي ـ والله ـ رسول الله قومه، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم فقال: (فيما؟) قال: فيما كان من قَسْمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن لهم من ذلك شيء، فقال رسول الله (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: ما أنا إلا امرؤٌ من قومي قال: فقال رسول الله (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني) فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه فقال: يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم فخرج رسول الله فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: (يا معشر الأنصار، ألم
(7)
آتكم ضلاّلا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم) قالوا: بلى ثم قال رسول الله (ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!) قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك المَنُّ لله ولرسوله؟ قال: (والله، لو شئتم لقلتم فصَدَقتم وصُدِّقتم، جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك) فقالوا: المنّ لله ولرسوله، فقــال رسول الله (أوَجَدتم في نفوسكم ـ يا معشر الأنصار ـ في لُعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضَون أن يذهبَ الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفسي بيده، لو أنّ الناس سلكوا شِعبًا وسلكت الأنصار شِعبًا لسلكتُ شعبَ الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا
(
بالله ربا وبرسوله قسما، ثم انصرف وتفرقوا.
الحديث :
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل لرسول الله ادعُ على المشركين قال: (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة) أو كما قال .
(9)
الخطبة الثانية
الحمد لله جل شأنه وعز سلطانه، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، اللهم صلّ على البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله ومن اقتفى أثره إلى يوم النشور.
أما بعد عباد الله :
نحن نحبُّ رسولَ لله وهو يحبنا ويشفق علينا؟! قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي تلا قول الله عز وجل عن إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي. وقوله تعالى عن عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فرفع يديه وقال: ( اللهم أمتي أمتي ) وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم
(10)
ـ فسله، فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله بما قال فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنّا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. وقد أرضاه الله في أمته فشفعه فيهم يوم الفزع الأكبر وجعلهم ثلثي أهل الجنة. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة) لقد أوذي ـ بأبي هو وأمي ـ وعودي وحوصر وطُرد وحورب وقُتل أصحابه وكُسرتْ رباعيته وكيد له، فما تعجل دعوةً له عند الله مستجابة، بل اختبأها ليفكّ بها عنا غلَّ يوم كان شره مستطيرا. إننا بحمد الله وتوفيقِهِ نحبه والمرء مع من أحب ؟! أخرج البخاري عن أنس أن رجلاً سأل النبيّ متى الساعة يا رسول الله؟ قال: (وماذا أعددت لها؟) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله،
(11)
قال: (أنت مع من أحببت) قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحَنا بقول النبي (أنت مع من أحببت) قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. قال الإمام الحسن البصري "ابن آدم لا تغتر بقول من يقول: المرء مع من أحب أنه من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم وتأخذ بهديهم وتقتدي بسنتهم وتصبح وتمسي وأنت على منهاجهم، حريصا على أن تكون منهم، فتسلك سبيلهم وتأخذ طريقهم وإن كنت مقصرا في العمل، فإنما ملاك الأمر أن تكون على استقامة". اللهم ارزقنا الاستقامة وارزقنا حباً خالصاً لنبيك وحبيبك ومصطفاك واجزهِ عنا ما هو أهلٌ لهُ وأنت أهلٌ له، اللهم احشرنا يوم القيامة تحت لواءه وفي زمرته، اللهم أوردنا حوضه واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
(12)
عباد الله :
اتقوا الله فإنكم عليه تعرضون وأخلصوا له الأعمال فإنكم عليها محاسبون واعلموا أن الله صلّى على نبيه في كتابه المكنون وأمركم بذلك فقال ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ فأكثروا من الصلاة عليه تكونوا من الفائزين. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وارض عن الأربعة الخُلفا وبقية العشرة الكرام وأزواج نبيك المصطفى وعن عمي نبيك وحبيبك وسبطيه ذوي الإخلاص والصفا وعن الأنصار والمهاجرين والتابعين إلى يوم الدين. اللهم أغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين, واجعل بفضلك هذا البلد آمناً مطمئناً ولا تؤاخذنا بما فعلنا وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم
(13)
الراحمين, اللهم بك نستنصر فانصرنا وإيّاك نسأل فلا تخيبنا وإليك نلجأ فلا تطردنا وعليك نتوكل فاجعلنا لديك من المقربين, إلهي هذا حالنا لا يخفى عليك وهذا ضعفنا ظاهر بين يديك فعاملنا بالإحسان إذ الفضل منك وإليك وأختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا من الذين تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالميـن
قوموا للصلاة يرحمكم اللــــه
* * *