العالم اليوم لا يخلو من وحشة ، وتلك الارواح المجندة والاصوات المتآلفة المتواصلة تخفف من وحشته وتهون من أحزان زمانه المديد ،نزلت فى مطار القاهرة فى صباح الخميس 20 يناير 2011 قبيل الثورة المصرية الحسورة بايام قلائل،لم أكن أحسب أنى سأزور تلك المدينة التى طالما قرانا عنها وطالعنا سمتها فى أجهزة الاعلام،فقد شدنى اليها أنى رأيت قبسا من ضوء الأخ العزيز صديق الماحى ،الذى قدم لى والاخوان الكرام بشير ادريس ويس عبدالقادر من ابناء شرفت الحلاوين دعوة تتضمن بين ثناياها صفاء وحرارة اخاء ،وسبحات خيال ،واضاءات من رؤى مستقبلية ،هكذا كان القبس والضوء من ذاك الاخ المرهف الصدوق،فقلت اسير وأتقفى أثره،فالحكمة ضالت المؤمن ،وكذلك المحبة،ولم أكن أعلم أننى منجذب الى ضوء عجيب جذوره بعيدة تمتد الى أنس طفولة وارث قديم ،وصوت عبقرى فريد ،ذاك الصوت هو صوت الاخ صديق الماحى،فما أن خرجت من صالة المطار واذا انا برجل مربوع الطول أقرب الى البدانة من النحول،وسام كرذاذ المطر خلف النوافذ الشفافة،فوق الاربعين كما نحن ،يبتسم وهو مثقل بالاحزان النبيلة، كأحزان شعراء الجاهلية عندما يقفوا أمام أطلال المحبوب ،سلمت عليه وكأنه لم يغب عنى ربع قرن ونيف،أحسست فيه الحيوية والاريحية،كأن قلبه يخرج من بين أضلاعه ويسابق بدنه ليلقاك مرحبا،يهش لك ،ويسحبك من يدك سحبا ليأخذك الى منزله ،ويبذل لك من نفسه كأنك الوحيد لديه ،وكل شىء عنده سيان فى بذله،كما علمت فيما بعد ،كانت الزيارة قصيرة لم تتعدى يومين ،ولكنها مليئة بالالفة والانس الجميل ،حقا هى هدية عظيمة من الله لشخص مثلى أن وجد من يشاطره حزنا بعيد الجذور ،ولكن صموده وجلده أمام الحياة يجعل الاحساس بذاك الحزن لا يبدو ،الا لمن يرهف السمع ويدقق النظر ،لأنه مرحا يلتف حولك بأفكاره الطريفة وعباراته الانيقة متنقلا بك بين الاجتماعيات والسياسة ومواقف الحياة،دلفنا معا فى عمق مدينة القاهرة لقضاء اجراءات حكومية ،شهدت خلالها مهارات لأخى صديق الماحى فى تعامله مع الاخوة المصريين ،فهو يجيد الحديث معهم بلهجتهم بسلاسة عجيبة ،من عرف لغة قوم أمن شرهم ،فقد قضى بينهم عقدا من المعاناة ،وجدته محبوبا بينهم وموثوقا بدرجة لم يجدها بين أهله واخوته،وهو أهل لذلك دون مجاملة،كيف لا وهو مقصد كل من يذهب للقاهرة من أهلنا بمختلف بقاع السودان ،فقد وجدت معه اسرتين فى رحلة استشفاء ،يتتبع امرهم منذ قدومهم الى عودتهم ،ويتحسس حاجتهم بلطف وايثار كما يتحسس اللسان ضرسا وارما، شهدت ذلك بام عينى نكون فى موضع ونحن فى رهق ونطلب الراحة يقول لك باصرار محير ،لازم نمشى نشوف الجماعة ديل امكن محتاجين حاجة،وما لم اشهده كان أعظم ،لك الله أخى صديق فمثلك فقد للبلد ،ولكنها حال مجتمعنا دوما يدعو مبدعيه الى الهروب قصرا،وجدت نفسى ازددت قوة ومنعة فى مواجهة ضروب الحياة ،كأنما انتقل الى صموده كالمشط عندما يحتك مع الصوف فيشحنه بكهرباء ساكنة غير محسوسة،احببت القاهرة رغم قصر مدتى فيها ،وعدم رؤيتى الى وجهها السياحى ،فقط لرفقتى لهذا الرجل الحبيب ،خرجت منه ونفسى تحدثى أن الجمال هو جمال النفوس ،فهى التى تعطى ألق الأمكنة،ودعته عائدا الى الرياض وكعادته لايمكن ان يتركك أوصلنى الى المطار ،لم أجرؤ على النظر اليه فى وجهه فقلت له مودعا -متمنيا العودة عاجلا-أنى ارى فيك وجه عمنا الماحى عليه رحمة الله،فقد كان صديقا حميما الى والدى رحمهم الله جميعا ،ومن كثرة تزاورهم شهدناهم فى طفولتنا وصبانا ولمست فيه ما لمسته فى الاخ الكريم صديق من نبل وطهر سريرة قل أن تجدها فى عالمنا اليوم،فبشراك عمنا الماحى فقد تركت صدقة جارية (فى شخص أخونا صديق )تغشاك طلاوتها فى مرقدك الطويل،وبشراك أخى صديق بأن الله لن يضيع أجر من أحسن عملا