(1)
سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه
الحمد لله، منَّ علينا بخيرِ الشرائع وأوفاها، وعلِم جهرَ كلِّ نفسٍ ونجوَاها، وعظَّم شأنَ أمنِها تعظيمًا لا يتناهى، وحفِظ لها دينَها وأنفسَها وعقولَها وأموالها ونسلَها، أحمدُه تعالى وأشكره عزَّ ربًّا وجلّ إلَهًا، سبحانه من إلهٍ عظيم وربٍّ رحيم لا يُماثَل ولا يضاهَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةَ من طهّر نفسه وزكّاها، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوثُ بأشرفِ الملَلِ وأزكاها، الذي قرَّر قواعدَ الملة وشيَّد بِناها، صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابه خيارِ الأمّة وأتقاها وأعلمِها وأهداها، والتابعِين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا .
أما بعد عباد الله:
إن أكمل الناس خلالاً وأفضلهم حالاً وأفصحهم مقالاً من اصطفاه ربّ البريّة ليكون هاديًا للبشريّة صلوات الله وسلامه عليه، حيث امتن الله عزّ وجلّ علينا ببعثته فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
(2)
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ثم أمرنا الله عزّ وجلّ بالاقتداء به والاهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وكما اختار الله نبيّه للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم، أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم، ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون والأمراء الحازمون والعلماء الربانيّون والقادة الفاتحون والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالُهم وتنطق به آثارُهم، لِما قاموا به من نشر الدين وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
(3)
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم وحافظ الأمة المقدَّم سيدنا أبو هريرة النجم المتألق من صحابة رسول الله ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين، فلم يخلُ ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغالية، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة ".
إن الناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب. كان الناس يدعونه في الجاهلية بعبد شمس، فلما أكرمه الله بالإسلام وشرّفه بلقاء النبي
(4)
قال له: ( ما اسمك؟ ) فقال: عبد شمس، فقال عليه الصلاة والسلام: ( بل عبد الرحمن ) فقال: نعم عبد الرحمن بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وأبو هريرة من قبيلة دوس إحدى بطون الأزد وهي قبيلة يمانيّة قحطانيّة مشهورة، فهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب شريف المعدن والأصل، لكنه لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته، فكان يدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يسلم؛ وسبب تكنيه بهذه الكنية سبب لطيف ظريف، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: إنّما كنوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة فجعلتها في كمي فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس؟! فأنت أبو هريرة فلزمتني بعدُ. ويقول أبو هريرة: كان رسول الله يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة، وكان يفضِّل كنية النبي له ويقول: ناداني بها حبيبي رسول الله
وقد نشأ يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد
(5)
بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ ثلاث سنين، انقطع خلالها الفتى الدوسي لخدمة النبي وصحبته، فاتخذ المسجد مسكنًا والنبي معلمًا وإمامًا، إذ لم يكن له في حياة النبي زوج ولا ولدٌ، وإنما كانت له أم عجوزٌ أصرت على الشرك، فكان لا يفتأ يدعوها إلى الإسلام إشفاقًا عليها وبِرًّا بها فتنفر منه وتصده، فيتركها والحزن عليها يفري فؤاده فريًا، وكان يتمنى إسلامها وحرص على ذلك حتى أسلمت، وكان سببًا في إسلامها، كما أخرج مسلم في صحيحه عنه أنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله : ( اللهم اهد أم أبي هريرة ) يقول: فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت
(6)
خضخضة الماء قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال: فرجعت إلى رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح قال: قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة فحمد الله وأثنى عليه
لقد أحب أبو هريرة النبي حبًا خالط لحمه ودمه، فكان لا يشبع من النظر إليه ويقول: (ما رأيت شيئًا أملح ولا أصبح من رسول الله حتى لكأنما الشمس تجري في وجهه). وكان يحمد الله تبارك وتعالى على أن منّ عليه بصحبة نبيه واتباع دينه، فيقول: (الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام والحمد لله الذي علّم أبا هريرة القرآن والحمد لله الذي منّ على أبي هريرة بصحبة محمد ).
لقد نال سيدنا أبو هريرة شرف دعوة النبي له أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله : ( اللهم حبب عُبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمّه إلى عبادك المؤمنين،
(7)
وحبب إليهم المؤمنين ) وهكذا كان من علامات المؤمنين حب أبي هريرة ببركة دعائه له، وشهادة القرآن له إذ هو معدود من جملة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله وقد أُمر النبي بالجلوس إليهم والصبر معهم كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء وكان النبي يطعمهم ويتفقد أحوالهم، وفضلهم مشهور معروف، وأبو هريرة منهم قد حاز شرف فضلهم وأجرهم،
عباد الله:
فكما أحب أبو هريرة النبي قد أحب العلم وجعله ديدنه وغاية ما يتمناه، حدّث سيدنا زيد بن ثابت قال: بينما أنا وأبو هريرة وصاحب لي في المسجد ندعو الله تعالى ونذكره إذ طلع علينا رسول الله وأقبل نحونا حتى جلس بيننا فسكتنا، فقال: ( عودوا إلى ما كنتم فيه ) يقول زيد: فدعوت الله أنا وصاحبي قبل أبي هريرة
(
وجعل النبي يؤمّن على دعائنا ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي وأسألك علمًا لا ينسى فقال عليه الصلاة والسلام: ( آمين ). يقول زيد: فقلنا: ونحن نسألك علمًا لا ينسى فقال عليه الصلاة والسلام: ( سبقكم بها الغلام الدوسي ). فنال أبو هريرة بركة دعاء النبي فأصبح وعاءً من أوعية العلم في هذه الأمة.
وكما أحب أبو هريرة العلم لنفسه فقد أحبه لغيره، ومن ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن أن أبا هريرة مر بسوق المدينة ذات يوم فهاله انشغال الناس بالدنيا واستغراقهم في البيع والشراء والأخذ والعطاء، فوقف عليهم وقال: يا أهل السوق ما أعجزكم! قالوا: وماذا يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله يُقسم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئًا يُقسم فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون وقومًا يقرؤون القرآن وقومًا
(9)
يتذاكرون الحلال والحرام فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد .
لقد عانى سيدنا أبو هريرة بسبب انصرافه للعلم وانقطاعه لمجالس رسول الله ما لم يعانه أحد من الجوع وخشونة العيش وتحمّل بسبب ذلك الكثير . روى عن نفسه فقال: (إنه كان يشتد بي الجوع حتى إني كنت أسأل الرجل من أصحاب رسول الله عن الآية من القرآن وأنا أعلمها كي يصحَبَني معه إلى بيته فيُطعِمَني، وقد اشتد بي الجوع ذات يوم حتى شددت على بطني حجرًا فقعدت في طريق الصحابة فمر بي أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله وما سألته إلاّ ليدعوني فما دعاني، ثم مر بي عمر بن الخطاب فسألته عن آيةٍ فلم يَدْعُنِي أيضًا، حتى مر بي رسول الله فعرف ما بي من الجوع فقال: ( أبو هريرة؟ )، قلت: لبيك يا رسول الله، وتَبِعتُه، فدخلت معه البيت فوجد قدحًا فيه لبن فقال لأهله: ( من أين لكم هذا؟ ) قالوا: أرسل به فلانٌ إليك، فقال: ( يا أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة فادعهم )، فساءني إرساله إياي لدعوتهم، وقلت في نفسي: ما يفعل هذا اللبن مع أهل الصفة؟! وكنت أرجو أن أنال منه شربة أتقوى بها ثم
(10)
أذهب إليهم، فأتيت أهل الصفة ودعوتهم فأقبلوا، فلما جلسوا عند رسول الله قال: ( خذ يا أبا هريرة، فأعطهم )، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى إلى أن شربوا جميعًا، فناولت القدح لرسول الله فرفع رأسه إلي مبتسمًا وقال: ( بقيت أنا وأنت ) قلت: صدقت يا رسول الله قال: ( فاشرب ) فشربت ثم قال: ( اشرب ) فشربت وما زال يقول: ( اشرب ) فأَشرَب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مساغًا، فأخذ الإناء وشرب من الفضلة.
عباد الله:
لم يمض زمن طويل على ذلك حتى فاضت الخيرات على المسلمين وتدفقت عليهم غنائم الفتح، فصار لأبي هريرة مالٌ ومنزلٌ ومتاعٌ وزوجٌ وولد، غير أن ذلك كله لم يغيّر من نفسه الكريمة شيئًا، ولم يُنسه أيامه الخالية فكثيرًا ما كان يقول: ( نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبُسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت أخدم القوم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا، فزوّجنِيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قِوامًا، وصيّر أبا هريرة إمامًا ). وقد وَلي أبو هريرة المدينة من قبل معاوية بن أبي
(11)
سفيان أكثر من مرة، فلم تبدل الولاية من سماحة طبعه وخفة ظله؛ مر ذات يوم بأحد طرق المدينة وهو والٍ عليها، وكان يحمل الحطب على ظهره لأهل بيته، فمر بثعلبة بن مالك، فقال له: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فقال له: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله؟! فقال له: أوسع الطريق للأمير وللحطب الذي على ظهره. وكانت ابنته تقول له: يا أبتِ، إن البنات يُعيّرنَني فيقلن: لم لا يُحلّيكِ أبوك بالذهب؟! فيقول: يا بنية، قولي لهنّ: إن أبي يخشى عليّ حر اللهب.
ولم يكن امتناع أبي هريرة عن تحلية ابنته ضنًّا بالمال أو حرصًا عليه، إذ كان جوادًا سخيّ اليد في سبيل الله، فقد بعث إليه مروان بن الحكم مائة دينار ذهبًا، فلما كان الغد أرسل إليه يقول: إن خادمي غَلِط فأعطاك الدنانير وأنا لم أُردك بها وإنما أردت غيرك، فسُقط في يد أبي هريرة وقال: أخرجتها في سبيل الله ولم يَبِت عندي منها دينار، فإذا خرج عطائي من بيت المال فخذها منه. وإنما فعل ذلك مروان ليختبره، فلما تحرّى الأمر وجده صحيحًا.
(12)
وكانت لأبي هريرة جارية فأساءت إليه وغمّت أهله، فرفع السوط عليها ليضربها به ثم توقف وقال: لولا القِصاص يوم القيامة لأوجعتُكِ كما آذَيْتينا، ولكن سأبيعُك ممن يوفِّيني ثمنَك وأنا أحوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.
الحديث:
قال : ( إذا جمع الله الخلائق نادى مناد أين أهل الفضل. قال: فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا حلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ).
إن الحديث عن أبي هريرة هو حديث عن أخلاق الإسلام وآدابه، وحديث عن صفوة رجال كانوا لهذا العِلم من أوعيته وطلابه، أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، وخرجوا من هذه الدنيا ولم يشبعوا في ليلتين. وأبو هريرة أحد هؤلاء الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، فأناروا العقول وفتحوا البصائر، وهذبوا النفوس وأيقظوا الضمائر، وكيف لا وهو وارث العلم النبوي الشريف الذي ضرب فيه بسهم وافر، حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع؟! ولم يكن يندفع للعلم وكثرة الرواية
(14)
ويتأخر عن العمل به، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبّد وحسن السمت والتزهد، أخرج البخاري وأحمد عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، فكانت العبادة لا تنقطع في بيته طوال الليل. ويقول هو عن مسلكه في كل ليلة: إني لأُجزّئ الليل ثلاثة أجزاء: فثلث أنام، وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله . وكان هو وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر الأولى من ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
عباد الله:
لما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد السفر وقلة الزاد، لقد وقفت في نهاية طريق يفضي بي إلى الجنة أو النار، ولا أدري في أيهما أكون. وقد عاده مروان بن الحكم فقال له: شفاك الله يا أبا هريرة، فقال: اللهم إني أحب لقاءك فأحِبَّ لقائي وعجّل لي فيه، فما كاد يغادر مروان داره حتى فارق أبو هريرة الحياة.
(15)
فرحمة الله على أبي هريرة معلمًا وهاديًا ومجاهدًا وداعيًا وآمرًا وناهيًا ورائحًا وغاديًا، فقد حفظ للمسلمين ما يزيد على ألف وستمائة وتسعة من أحاديث رسول الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا. هذا وصلوا وسلموا معشر المسلمين علي سيد الأولين والآخرين فقد أمركم بذلك الجليل العظيم فإنهما وقايتان من فتن الدنيا وعذاب الجحيم