د. تنيضب الفايدي
الشعر يخلد حب الوطن
الوطن.. هذا المكان الذي ارتبط به الإنسان، وسكنه روحاً وجسداً، وهام به حباً وحنيناً، هام بصحرائه الواسعة، وجباله المتنوعة، وأوديته باختلاف أبعادها، كما هام بسمائه وجمالها،وهوائه بنسيمه ورياحه، ورياضه المزهرة، ومراتعه الممرعة، وخيرات مزارعه،كما أحب بحاره بشواطئها الجميلة وسواحلها الساحرة. وارتبط حب الإنسان بهذا الوطن وذلك بشعر الحنين إلى الديار والوطن والأرض الذي يعتبر من أرق ما قاله العرب من الشعر، لأنه يعبر عن أنبل العواطف الإنسانية وأرق المشاعر القلبية، ولأنه عنوان المحبة الصادقة وصدق الوفاء. شعر سداه ولحمته العواطف، ليس للمادة فيه نصيب. لأن فيه حنين الوالدين إلى ابنهم، وحنين الابن إلى والديه وحنين الاخوان والخلطاء والأحباء، حنين الفرع إلى الأصل، والأصل إلى جزئه. وهدف موضوع «الشعر يخلد حب الوطن» إلى: 1) اختيار أهم ما قيل في حب الوطن، ويتميز هذا الاختيار بأنه من أكثر ما قيل في حب الديار والأوطان شهرة وعمقاً، ويحفظ بسهولة لمن أراد حفظه ولا سيما الطلاب والطالبات في المراحل الدراسية المختلفة بما في ذلك المراحل الجامعية. 2) ثم مراعاة الفترات الزمنية بدءاً من العصر الجاهلي وحتى عصرنا الحالي مع تنوع الشعراء واختيار غرر شعرهم في الوطن، ومع التركيز على الشعر الرقيق الذي يصدر عن وجدان صادق محب للوطن، ويلمس فيه القارئ جيشان العاطفة الصادقة والبعد عن الصنعة والتكلف، كما أظهر الموضوع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وبعض المواقع الأخرى كبعض الجبال والأودية. 3) يعتبر هذا الموضوع خطوة أساسية لإبراز أهمية الوطن مع غرس ثقافة أدبية عميقة وأصيلة تعتبر مرجعاً رئيساً لمن أراد الكتابة عن الوطن وحب الديار، ويستطيع الاستشهاد بالشعر والنثر، ويحقق للطلاب والطالبات ثروة لغوية تسعفهم عند الحديث عن الوطن. 4) ليس الهدف من موضوع: «الشعر يخلد حب الوطن» مجرد الحفظ والاستظهار، وانما يتجاوز ذلك إلى غرس الوعي الوطني والاعتزاز به والدفاع عنه، والحفاظ على مكتسباته، ولا سيما أن أغلب كلمات الموضوع شعراً ونثراً تخاطب عاطفة ومشاعر وأحاسيس القارئ والمستمع. وحيث إن ارتباط الإنسان بحب الموقع الذي نشأ فيه شيء طبيعي لارتباط حياته بذلك المكان، حيث أسرته وجيرانه، وأقرانه، وذكريات طفولته وهو دليل إخلاص، لأن ذلك يمثل الانتماء إلى الأسرة، والانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، حيث يرتبط الجميع بالوطن ويتآلفون ويتعارفون وقد جاء الإسلام ليثبت هذا الحب، فقد بين الله تعالى فضل الوطن بقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}، حيث جعل الخروج من الديار بمقام قتل الأنفس. وقد أحب الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو صلى الله عليه وسلم القدوة والاسوة الحسنة في حب تلك المدينتين المقدستين، كما أثبت صلى الله عليه وسلم الحب لبعض الأودية والمواقع والجبال ومنها جبل أحد فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحداً جبل يحبنا ونحبه» متفق عليه. واشتاق كثير من الصحابة إلى موطنهم الأول مكة المكرمة حيث هاجروا منها، وتركوا أرضهم، وأموالهم، بل وأهليهم وليس هناك ما هو أشد مرارة على المرء من ترك وطنه ومسقط رأسه مكرها فهذا سيدنا بلال رضي الله عنه كان عبداً لأمية بن خلف الذي تفنن في تعذيبه عندما اسلم حيث كان يطرح عرياناً على الحصى والحجارة الملتهبة، ويطوف به صبيان مكة أوديتها، وشوارعها، وجبالها، وذلك ليردوه عن دينه وهو يردد «أحد، أحد» وأكرمه الله بالثبات على دينه وبالهجرة إلى المدينة النبوية حيث سبقه إليها حبيبه صلى الله عليه وسلم، وعندما استقر بالمدينة اشتاق إلى مكة حيث قضى بها شطراً من حياته فهي وطنه، حن إلى أوديتها وجبالها، وشوارعها، التي كانت يعذب بها واشتاق إلى أسواقها، ومنها أسواق مجنة، وحن إلى جبالها ومنها شامة وطفيل وهذا الشوق دفعه إلى أن يتمثل شعراً: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي أذخر وجليل وهل اردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل إنه الحب الذي ارتبط بمواقع الصبا، مكة المكرمة وشاركه في هذا الحب الصحابة المهاجرون منها إلى المدينة المنورة، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الحب لمكة، ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يجبب إليه وإليهم المدينة كحبهم مكة أو أشد حيث قال صلى الله عليه وسلم «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد وصححها لنا وبارك لنا في صاعها ومدها..» الحديث. متفق عليه. وفتق حب الديار والوطن عاطفة الحب وأشعلت الهوى لمن سكن هذه الديار، وصدرت نفثات رقيقة وصور دقيقة عن حب الديار والمنازل، كما ظهر شعر الاعتزاز والافتخار بالأمجاد التاريخية من خلال الشعر بداية من شعراء المعلقات السبع أو العشر، حيث خلد كل شاعر وطنه، ووطن محبوبته، وبعض الأماكن الأخرى في شعره وأظهر كل شاعر تفجعه على الديار والتوجع للدمن والآثار، فقد قال امرؤ القيس بن عمرو الكندي قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل (حيث ذكر سقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة) وهي مواقع لها أهمية لارتباطها بمحبوبته. وها هو طرفة بن العبد البكري يذكر مكان محبوبته ويسمى (برقة ثهمد): لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد وأحب زهير بن أبي سلمى محبوبته، ومواطنها (حومانة الدراج، والمتثلم، والرقمتان) حيث قال: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم ودار لها بالرقمتين كأنها مراجيع وشم في نواشر معصم وكذلك بقية شعراء المعلقات اشتاقوا قديماً إلى أوطانهم واشتد حنينهم إلى منازل الصبا، ومواطن الأهل، وقد يحب الإنسان وطنه مع عدم توفر ما يسعى إليه. قال الشاعر: وتستعذب الأرض التي لا هوى بها ولا ماؤها عذب ولكنها وطن بل إن حب المكان يحول ترابه إلى مسك وكافور، وأشجاره ذات الأعواد الجافة إلى رند وهو نبت طيب الرائحة: ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا حيث خلد هذا الحب وادي الجزع، وخلد الشعراء القدماء حب الدياروتحديدها بالجبال والاودية، والسهوب، وتشرب ذلك الحب ابناؤهم، واصبحت الاجيال تردد ذلك الشعر، وتعلم موطن الشاعر بجباله واوديته التي عاش فيها وخلدها شعره فهذا الشاعر «عائذ بن محصن» ولقبه المثقب العبدي رصد خمسة مواطن في بيتين من الشعر: لمن ظعن تطالع من ضبيب فما خرجت من الوادي لحين مررن على شراف فذات رجل ونكبن الذرائح باليمين حيث ذكر الشاعر من الاماكن «ضبيب» و«الوادي» و«شراف» و«ذات رجل» و«الذرائح» وهي مواقع لها اهمية لدى الشاعر، لارتباط ذلك برحيل حبيبته «فاطمة» ومطالبته اياها ان تمتعه قبل رحيلها بالحديث والنظر والتحية قبل ان يحول البعد بينه وبينها او كما خاطبها في بداية قصيدته قائلاً: افاطم قبل بينك متعيني ومنعك ما سئلت كأن تبيني فلا تعدي مواعد كاذبات تمر بها رياح الصيف دوني ويعبر الشعر - كما هو معلوم - عن فطرة فطر الله الناس عليها، ولا تبديل لفطرة الله، حيث يبقى هذا الحنين ما بقي الزمان، وهو فطرة في كل ذي روح خلقه الله: في الإنسان والحيوان، والطير.وقد ذكروا في سبب الحنين الى الوطن اقوالاً: قال ابو عمرو بن العلاء: مما يدل على حرية الرجل وكرم غريزته، حنينه الى اوطانه، وتشوقه الى مقدم اخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه. وقالوا: الكريم يحن الى وطنه كما يحن الاسد الى غابه.وقالوا: يشتاق اللبيب الى وطنه كما يشتاق النجيب الى عطنه.. وقال آخر: الحنين الى الوطن من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشدة، وكرم الرشدة من كرم المحتد. قال الشاعر: لقرب الدار في الاقتار خير من العيش الموسع في اغتراب قيل لاعرابي: اتشتاق الى وطنك؟ قال: كيف لا اشتاق الى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها! وكنا الفناها ولم تك مألفاً وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن كما تؤلف الأرض لم يطب بها هواءً ولا ماءً ولكنها وطن وهاهو ابن الرومي وقد عصف به الشوق الى وطنه فكيف يفرط به او يبيعه او يتنكر له: ولي وطن آليت الا ابيعه والا ارى غيري له الدهر مالكا عهدت به شرخ الشباب ونعمة كنعمة قوم اصبحوا في ظلالكا وحبب اوطان الرجال اليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا اذا ذكروا اوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا فقدالفته النفس حتى كأنه لها جسد ان بان غودر هالكا ...