لَقَدْ دَارَ الفَلَكُ دَوْرَتَهُ حَسَبَ سُنَّةِ اللهِ التِي لاَ تَتَحَوَّلُ وَلاَ تَتَبَدَّلُ فَلَنْ تَجِدَ لِسُّنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُّنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً، وَيَتَألّقُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا هِلاَلٌ يُؤْذِنُ ظُهُورُهُ بِقُدُومِ وَافِدٍ مُبارَكٍ، إِنَّهُ ضَيْـفٌ عَزِيزٌ، ذَلِكُمْ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرُ القُرآنِ، شَهْرُ الجُودِ والإِحْسَانِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا كُلَّ عَامٍ، وَفِي مَعِيَّـتِهِ أَلْوَانُ الخَيْرَاتِ، وَأَصْنَافُ البَرَكَاتِ، فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَستَقْبِلَهُ بِمَزِيدٍ مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَصَفَاءِ النُّفُوسِ وَسَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَلْقَاهُ كَمَا يَلْقَى كُلَّ هِلاَلٍ، بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالابْتِهَالِ، فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ))، كَمَا كَانَ –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِمَقْدَمِ هَذَا الشَّهْرِ المُبَارَكِ؛ لِيَستَعِدُّوا لاغْتِنَامِ أَوقَاتِهِ، وَاقْتِنَاصِ كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِهِ، فَهُوَ فُرْصَةٌ سَانِحَةٌ، لِتِجَارَةٍ مُبَارَكَةٍ رَابِحَةٍ، يُضَاعِفُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا الأُجُورَ، فَحُقَّ لَهَا أَنْ تُوْصَفَ بِأنَّها تِجَارَةٌ لَنْ تَبُورَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التِّجَارَةُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ العَطَاءِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ، فِي كُلِّ الأَوقَاتِ، فَكَيْفَ بِشَهْرِ الخَيْرَاتِ وَمَوْسِمِ البَرَكَاتِ؟ كَيْفَ بِشَهْرٍ يَقُولُ الرَّسُولُ فِي شَأْنِهِ: ((مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْـلَةٍ مِنَ الخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، ومَنْ أدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ)).
عِبَادَ اللهِ :
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ تَنْعَقِدُ لِلْمُؤمِنِينَ دَوْرَةٌ تَدْرِيبِيَّةٌ، لِتَنْقِيَةِ الفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ، وتَجْدِيدِ المَعَانِي الإِنْسَانِيَّةِ، مِنْ خُلُقٍ نَبِيلٍ، وَإِيثَارٍ جَمِيلٍ، وَصَبْرٍ وَمُصَابَرَةٍ، وَمُدَاوَمَةٍ عَلَى الخَيْرِ وَمُثَابَرَةٍ، وَتَأْسِيسٍ لِلتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ، وَهِيَ بَابٌ وَاسِعٌ وَمَفْتُوحٌ، مَنْ وَلَجَهُ بِعَزِيمَةٍ وَإِرَادَةٍ؛ حَظِيَ بِالقَبُولِ وَنَالَ السَّعَادَةَ، فَهَلاَّ وَلَجْتُمْ هَذَا البَابَ، وَأَحْسَنْتُمُ المَتَابَ؛ فَكَفَّرَ اللهُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَمَنَحَكُمْ عَظِيمَ الأَجْرِ وَجَزِيلَ الثَّوَابِ، إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا، فَهُوَ إِذَنْ لاَ يَخْـلُو مِنْ سَقَطَاتٍ، وَلاَ يَسْـلَمُ مِنْ عَثَرَاتٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْ لَوَازِمِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، إِلى أَنْ يَأْتِيَهُ اليَقِينُ، وَلَقَد دَعَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى التَّوْبَةِ وَحَثَّـنَا عَلَيْهَا، مَعَ وُجُودِ الإِيمَانِ وَاستِقْرَارِهِ، وَاستِدَامَتِهِ وَاستِمْرَارِهِ، حتَّى لاَ يُصِيبَنا دَاءُ العُجْبِ، فَيُحْبِطَ كُلَّ مَا عَمِلْنَاهُ، وَيَهْدِمَ كُلَّ مَا بَنَيْنَاهُ، واستَمِعُوا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِينَا فِي القُرآنِ بِصِفَةِ الإِيمَانِ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ويَقُولُ سُبْحَانَهُ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، ويَقُولُ الرَّسُولُ ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْـلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْـلِ، حتَّى تَطْـلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا))، وَيَقُولُ –عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ-: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ))، فَمَا أَحْرَانَا أَنْ نَستَقْبِلَ شَهْرَ رَمَضَانَ الكَرِيمَ بِمَا فِيهِ مِنْ نَفَحَاتٍ إِلَهِيَّةٍ، بِتَوْبَةٍ صَادِقَةٍ سَوِيَّةٍ، لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنَّا مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَعَرَفَ حُدُودَهُ وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْهُ كَفَّرَ مَا قَبْـلَهُ))، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))، فَاستَقْبِلُوا - عِبَادَ اللهِ - شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ انْضِبَاطٍ وَالْتِزَامٍ، وَادْخُلوهُ مُحَافِظِينَ عَلَى أَدَاءِ مَا أَمَرَكُمُ اللهُ فِيهِ مِنْ صِيامٍ وَقِيَامٍ، وَتِلاَوَةٍ لِكِتَابِ اللهِ وَمُدَارَسَةٍ لَهُ، وَتَمَسُّـكٍ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَإِسْهَامٍ فِي كُلِّ عَمَلٍ نَافِعٍ خَلاَّقٍ، فَشَهْرُ رَمَضَانَ مَحَطَّةٌ لِتَعْبِئَةِ القُوَى النَّفْسِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ وَالخُلُقِيَّةِ، التِي تَحتَاجُ إِلَيْهَا كُلُّ أُمَّةٍ فِي الحَيَاةِ، وَلاَ يَستَغْنِي عَنْهَا أَيُّ فَرْدٍ فِي المُجتَمَعِ