نزفت من سِني عمرها الكثير, وهي تنتظر الشروق كلما انصرم غروب , وظلَّت تلوب في دائرة مفرغة بين تعاقب الليل والنهار, فأرهقها الترقب بدقات قلب واجفة حتى ملَّت أنين الرُّوح, وانهيار الجسد, فقررت بشجاعة فائقة أن تلبي نداء أمومتها بارتكاب الإثم مهما كان الثمن بعد أن سُدَّت بوجهها كل الأبواب ,وانهارت أمامها الأسوار التي كانت تنشد خلفها أملا يتجسد طفلا يناديها ماما,فما ظهر لها غير وهم صنعته من أحلامٍ خاوية ..كانت تتألم بعنف يقتلعها من هدوء حياتها, وهي تسمع هذا النداء حريريًا على مدار الساعةِ من أولاد سلفتها التي تسكن معها في البيت الكبير, فتحسه أشواكا تمشط دواخلها بالقهر ,والحسرة ..تتقلى بنار الحرمان يلجمها الصمت خشية الشماتة , والصبر عاجز عن الرأفة بها عجزًا مريبًا ..عشرون عامًا مرَّت وهي تصارع العقم ..تتناول الأدوية حتى أصيبت بقرحة في معدتها, ولم تسلم من نزفٍ ملفتٍ عدة مرات , ورغم ذلك فمازالت تسعى بين عيادات الأطباء الكثيرة طلبًا لوصفة تجعل حلمها حقيقة بابتسامة طفل صغير, يشرق في ليل عمرها الطويل ..ينقذها من تهديده لها بالزواج , فهو أيضًا يتحرق شوقًا لولي عهدٍ يرث أمواله المكدَّسة في البنوك, وأراضيه الشاسعة المساحة ,ومتاجره التي تتضاعف عامًا بعد عام ..مازال يحلم بعيني طفله العسليتين منذ أن فكًّر أول مرة بالزواج , ولكنه مازال يتلمس بيديه المضطربتين وجه الحلم في الهواء, فيجده باردًا دون حياة ,أو ساخنًا بحمَّى الوهم, فيقلب كفَّيه ألمًا ومرارا على عمرٍ يتلاشى بالسراب,فلا هو قادر على الزواج على نفيسة التي يحبها, ولاهو قادر على مقاومة عاطفته الجامحة بأحاسيس الأبوة المشتعلة بالشوق , فيمضي العمر به خشنًا تتصدَّع سنونه بالوحشة والفراغ الممل.
هو رجل أعمالٍ كبير,ورغم ثرائه الفاحش لم يغادر بيت العائلة الكبير حبًا بأولاد أخيه, فكان يطفئ في تعلقه بهم لهيب حرمانه من ذرية تنسلُ من صلبه ..أما هي فكانت تطلب منه الانتقال إلى بيتها الذي بناه لها,لتنعم بحرية أكبر..لتجفف نبع دموعه بالابتعاد عن محرض الدَّمع والتفكير بطفل, لكنه لم يستجب لها, خاصة عندما رفضت زوجة أخيه السماح له باصطحاب ابنها البكر حسن, ليكون بجانب عمه الذي أحبه حب الأب للابن, وأغدق عليه من العطايا ما أغرق بها أسرة أخيه المتوسط الدخل , فكان حسن مصدر رزق لهم مارفض عمه يومًا له طلبًا ,وقد استغلت والدته هذا التعلق به, فأرهقت كاهل المحب المحروم من الولدِ بطلباتٍ لاتنتهي ..
في زيارتهما الأخيرة للطبيب قال لها بأنها لن تكون أمًا, لأنها بصراحة تشكو من مشكلة عدم الإنجاب بسبب قصور في الرحم..
صعقت وهي تتلقى نعي أملها بعد طول انتظار..أغمي عليها.. سقطت أرضًا لبعض وقت.. كاد خلاله يغمى عليه هو الآخر, فقد شعر للمرة الأولى بأنه يحبها أكثرمن أي وقت مضى ,وعندما استعادت وعيها, جلس الطبيب خلف مكتبه متحدثًا إليهما بما جعلها تستعيد رونق وجهها بعد اصفرارٍ..
عادا إلى البيت سعيدين تتخاطفهما الأماني كطفلين يلهوان بين الزهور في حديقة ربيعية..يغردان مع الطيور, ويرفرفان مع النسيم.. يتناجيان كعريسين ,ويرقصان على أنغام المنى رقصة الفرح بعد طويل حزن..
سألتها سلفتها عن سر سعادتهما المفاجئة , فابتسمت دون أن تخبرها شيئا, فراحت الأولى تضرب أخماسًا بأسداس,وهي تخمِّن خلال عملية الضرب الموجعة هذه ,أسباب البهجة التي سقطت عليهما دون سابق إنذار, فلم تحصل على نتيجة ضرب صحيحة,فباتت ليلتها بغمٍّ وهمٍّ..
في اليوم الثاني عاد حسام إلى البيت بوجه غير الذي خرج به قبل ساعة ...أسرعت إليه تسأله عن فتوى الشيخ فقال لها:الشرع يحرِّم استئجار الأرحام ..
فهمست بصوت حزين :لاتقلها..
- :فاسمعيها جيدًا يانفيسة لتكوني على بينة من رأي الشرع بما نحن مقدمان عليه ولك حرية الاختيار.
- :أبعد أن وجدنا حلا يعترضنا الشرع؟
أجابها:الشرع يبين لنا الحلال والحرام وما نختاره نجزى عليه..
- :أعرف ذلك , ولاأحب مخالفة أمر ربي ..قل لي ماذا قال لك الشيخ؟
عرفت كل شيء لكن الحلم الذي انتظرته خُمس قرن كان أقوى من انصياعها لأمر الشرع ..أمضت ليلتها وهي تفكر كيف ستجد امرأة تؤجر لها رحما تسعة أشهر يولد بعدها القمر بدرًا ..مرَّ على شاشة فكرها الكثير من الأسماء النسائية بينهن الأرملة والمطلقة والبكر ..لا..لا..يجب أن يكون الرحم الذي سيحضن طفلها يختلف عن كل تلك الأرحام , ليليق به لأنه لايشبه الأطفال بحالٍ من الأحوال , فهو ابنها وهذا يكفي لتوفرله سكنًا طاهرًا, وغذاءً حلالًا, وجوًا دافئًا, ولوكلفها ذلك ثروة زوجها كلها ..
عرضت بضاعتها على بعض النسوة اللواتي وقع عليهن الاختيار, ولكنهن رحن يسخرن منها واتهمتها إحداهن بالجنون..فشلت كل المساعي التي قامت بها, فراحت تبكي قلة حظها , فرقَّ قلب الزوج بانسياب الدمع من عينيه غزيرا, وذات لحظة شجن همس في أذنها باسم جعلها تقف بغضب وهي تصرخ :لا..مستحيل
- :ليس هناك حلٌّ آخر..
حزمت حقائب السفر وودعت وزوجها أخاه , وزوجته, والأولاد, وهما في طريقهما إلى إحدى الدول الأوروبية ,همس لها في الطائرة :إنها تجلس في المقعد الذي يليك ..
هزَّت برأسها والغضب يرتسم فوق وجهها عبوسًا, واصفرارًا..كانت تتعمد ألا تراها, ولكنَّ شيئًا ما كان يدفعها للالتفات إلى الوراء بين وقتٍ وآخر, فتقع عيناها على وجهها الذي مارأته يومًا, رغم أنَّ صاحبته من أشهر نساء المدينة, فيرتد إليها بصرها قلَقًا وحزنًا ..
خلال أسبوع كان كل شيء قد تم بنجاح مؤكد كما أخبرهما الطبيب, وعندما عزما على العودة إلى الوطن, قررا أن يكون مكان إقامتهما في مدينة بعيدة عن مدينتهما, ريثما تضع سعاد الطفل , فيعودان به إلى بيتهما مع الأهل , فيستقبلهما الجميع بالأفراح, بعد أن أشيع بأنها حامل إثر العلاج الذي تم لها في أوروبا..
بصعوبة بالغة استطاع إقناع زوجته بضرورة إقامة حاضنة الجنين معهما في البيت للعناية بها من أجل الأمل, فكانت تقوم بتوفير الراحة لها, وتقديم الغذاء الممتاز الذي ستنعكس نتائجه على المنتظر كما تعتقد,وعندما تحرك في أحشاء الأم الحاضنة كادت تفقد عقلها من شدة الفرح, وكأن بطنها هي الذي يتمطى فيه الجنين لابطن المستأَجَرة, وكم تمنى زوجها أن يجس هذه الحركة في بطن الحامل, ولكن كان بينهما الحلال والحرام, ومن كثرة لهفته إليه, انتابه ذات شوق للطفل هاجس مفاجئ تردد صداه في نفسه أكثر من مرة , فكاد أن يعقد قرانه على المرأة التي يتقلب ابنه في رحمها , ويضع أذنه فوق بطنها لينعم بسماع دقات قلب الحبيب, ولكنه كان يرتجف فجأة, ويقول بصوت مسموع أستغفر الله العظيم , فتسأله زوجته عما به, فيصمت برهة ثم يقول :أوهام تراودني لعن الله الشيطان..
تسأله :ماطبيعة هذه الأوهام؟
يجيبها :لاعليك فإنني أستعيذ بالله منها ..
وعندما كانت تلح عليه بالسؤال كان يترك البيت, ويخرج إلى السوق يتمشى هناك بعض وقت ثم يعود للنوم, ولايستيقظ قبل السابعة من صباح اليوم الثاني ..
كان أنيسها في تصبرها ريثما يأتي الحبيب بعض نقرات على نافذة روحها.. ترسلها لها يمامة بيضاء ..تهديها في كل مرة طاقة أشواق من نبضات حب لاتهتف إلا بالأمل فتلتقت من فم اليمامة حبات المنى المضمخة بالشذى,وتمسح بها وجهها, واللؤلؤ ينساب من عينيها مرايا لذاتٍ فتتها الشوق لرؤية فلذة كبدها القادمة من رحم غريب ..ويكبر الشوق والجنين يتمادى بتحركه, والحاضنة تشعر بالسعادة ...يزغرد داخلها..يخبرها بأنها ستصبح أمًا ..هاهو الجنين يداعبها بيديه وقدميه فتبتسم له ناسية بأنها مجرد وعاء يحضنه لبعض وقت ثم تودعه إلى الأبد ,فقد قبضت مبلغًا كبيرًا من المال مقابل تأجير رحمها الذي كان هو الآخر يتشوق لحضن جنين يولد لها عن طريق الحلال ,فقد سئمت من تأجير جسدها فراقت لها فكرة تأجير رحمها بهذا المبلغ الذي ستبدأ به حياة نظيفة تستغني بها عن مسايرة السكارى والفجار وأهل الليل ,ولكنها عندما عقدت الصفقة المربحة لم تكن تدري بأن لها مشاعر سيهيِّجها تقلب جنين في بطنها بالاتجهات الأربعة..وعندما حان موعد الولادة أحضرت إحدى الدايات ,وكان كل شيء على أهبَّة الاستعداد لاستقبال ملك القلوب المنتظرة قدومه بشوق فريد.. سعاد تصرخ والداية تهون عليها آلام المخاض , ونفيسة تمسك بيديها وتمسح عن جبينها حبات العرق المتساقطة بغزارة ..بينما يقف حسام في الغرفة المجاورة ينتظر بفارغ الصبر نبأ مولد طفله الذي سيجعل منه أسعد أبٍ في العالم ..رآه بخياله وليدًا ..يكبر رويدًا رويدًا ..يكاغي ..يحبو ..يمشي ..يركض ..يدخل المدرسة ..فالجامعة ..يتخرج طبيبًا ..يتزوج ..ينجب أولاداً يلاعبهم ونفيسته ..ياااه ما أجمل الأولاد والأحفاد ..
ويسمع صرخة مدوية تطلقها المرأة يعقبها صراخ الوليد ..تتناوله نفيسة من يد الداية تحضنه قبل أن تغسله, وعينا سعاد ترمقانها بلهفة ممزوجة بالحزن رغم ما تكابده من آلام الولادة ..تسرع الداية, فتربط سرته, ثم تغسله, ونفيسة تصب الماء فوقه وهي تتلو صورة الفلق ثلاثًا..تلبسه ثيابه , وتخرج به إلى والده والبسمة ترقص فوق محياهما سعادة وإشراقا ..
مازال الوليد يبكي ..تحاول نفيسة إسكاته ..تهزه ..يزداد بكاءً..تصرخ سعاد أعطوني الصغير أريد أن أرضعه..ترفض نفيسة ..تتوسل إليها باكية ..ترفض ..تطلب منها أن تراه ..تخبرها بأن والده يمتع به عينيه , فقد طال انتظاره له عشرين عاما..تنهض سعاد من فراشها متعبة تحاول الخروج من الغرفة ..تمنعها الداية ..تصرخ بصوت عالٍ :أريد ولدي ..أرجوكم أحضروه لي ..لاجواب ..أرجوكم أريد طفلي...لاجواب ..تخرج الداية من الغرفة برفقة نفيسة ..تقبض منها مبلغًا كبيرًا من المال بعد أن كتبت لها ورقة تبين فيها أنها قد قامت بتوليد السيدة نفيسة بالطفل محمود ..
بينما صوت نحيب سعاد يملأ أرجاء الغرفة .. تعود نفيسة إلى الغرفة في محاولة لتهدئتها...تعدها بإحضار الطفل إليها فيما بعد ..لكن سعاد تزاد بكاءً وفي المساء ترتفع درجة حرارتها وتبدأ بقول أشياء غريبة تخيف نفيسة, فتطلب من حسام إحضار طبيبٍ لها ..وعندما خرج الطبيب من غرفتها أخبر حسام بأن المرأة بحاجة إلى عناية مشددة في المستشفى فحالتها سيئة ..حاول الأطباء تخفيض درجة حرارة سعاد, ولكن فشلت محاولتهم, وكانت تردد وهي في شبه غيبوبة اعطوني طفلي فتتجاهل نفيسة نداءها بينما كان الطفل في حضن مربية أحضرها والده قبل مولده بعدة أيام , وفي الصباح كانت سعاد جثة هامدة..م ن ق و ل