لجأت بعض (الدول العربية) إلى إدخال مادة جديدة في مقرراتها الدراسية بمراحل التعليم العام، تحت مسمى (التربية الوطنية) فإذا نظرت في محور هذه المادة وجدته ضعيفاً، إن لم يكن ساذجاً, أما نماذج الدروس والموضوعات المختارة التي تحقق من خلالها أهداف التربية الوطنية، فلا توجد بها أية قيمة وطنية يستند عليها المعلم ويبذل جهداً في تحقيقها.
قد يرى البعض إدخال هذه المادة ظناً منهم أنها تساعد في تحقيق قيم الأمة ومفهوم الوطنية في نفوس الناشئة. فهل هذا اتجاه صائب؟ لا أظن ذلك. لأن الوطنية في رأينا سلوك مُكتسب، وقدوة تتبع، ومهارة يتدرب عليها النشء حتى ترسخ في وجدانه، وليست مادة تدرس في مراحل متقدمة من عمر الناشئة، وبعدما برزت ملامح شخصياتهم، فالتربية الوطنية، غرس في الوجدان وبناء في النفوس تشترك فيه بيئات كثيرة، أولها البيت، المدرسة، الإعلام والدولة, مع اعترافنا باضمحلال القيم الوطنية، وتسامي معنى الوطن ومفهوم الأمة لدى كثير من شبابنا، في حين أننا نرى دولاً شبابها يعبد وطنه عبادة، والمثل الذي يحتذي به الشعب السوداني ونموذج الوطنية وحب الوطن هو (الشعب المصري) فهل لديهم مادةً اسمها التربية الوطنية، يدرسونها في مراحلهم الدراسية المختلفة، لا أعتقد ذلك، ولكن المصريين يستثمرون أمجاد أمتهم، وبطولات شعبهم، وإنجازات قادتهم، ويبرزونها في ثوب قشيب موشى بقيم التضحية والبطولة وحب الوطن، وعظمة الأمة.
فالتربية الوطنية كما أسلفنا ومفهوم الأمة والوطن لدينا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقيم الدين والعقيدة والرسالة الأسلامية وشموليتها وعالميتها وما تدعو إليه ومفهوم الإسلام للأمة، أي مفهوم الأمة في الفكر الإسلامي، وتعاضدها وترابطها وتماسكها, ومنذ ترسيم الحدود السياسية للدول والبلدان أصبح هناك مفهوماً جديداً للوطنية والأمة. وبدأت الشعوب في بناء فلسفات خاصة بها بناء على رقعة جغرافية محددة، تفخر بأمجادها وبطولتها وحضارتها وثقافتها. وأصبح الإعلام يمثل حجر الزاوية في تحقيق أهداف التربية الوطنية في نفوس الأمة وشبابها، وقد عالجنا موضوع الإعلام والتربية في مقال سابق، أما التربية الوطنية فهي مسؤولية ملقاة على عاتق وزارة التربية والتعليم وذلك من خلال مناهجها ومقرراتها الدراسية وبرامجها وخططها التربوية، وتعمل وزارة التربية والتعليم بجميع أقطار الدنيا على تحقيق أهداف التربية الوطنية وغرسها في نفوس أبناء الأمة، متبعة في ذلك مختلف الوسائل المعينة على تحقيق الأهداف، ونحن بالطبع نخوض في بلادنا هذا العام والأعوام التي تليه معارك تربوية قاسية، وتجارب مريرة نحو الانتقال والرقي والتطور العلمي الدقيق لأساليب التربية والتعليم في مؤسساتنا التربوية (مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا), ننشد التقدم والتحديث في سلم البناء التربوي والوصول إلى الأسس والمبادئ التربوية والعلمية السلمية التي تراعي معتقدات الأمة السودانية، وموروثاتها وعاداتها وطبائع تفكيرها، وأمزجتها، وتنوع ثقافاتها وقدراتها، حتى يتسنى لنا بناء جيل، رائد متماسك، متوحد في الفكر والهدف والطموح والمصير, لبناء أمته والنهوض بها من براثن الجهل والمرض، ومحو الشوائب العالقة في نفوس أجيالنا القادمة، ساعين بكل قوة وإرادة لخلق أمة ذات خصائص وسمات متميزة، متطورة مبدعة، خلاقة، مدافعة عن معتقداتها ووجودها ووطنها وتاريخها وأمجادها.
وبالرغم من أن الأمة السودانية تزخر بالعديد من قيادات الفكر التربوي، ذوي الخبرة والكفاءة المشهود لهم بها في كثير من بلدان العالم، إلا أننا مازلنا في وطننا السودان، عاجزين تماماً، ومقصرين عن إدراك واستيعاب الغايات المطلوبة والروئ المفقودة والأهداف المنشودة لمستقبل هذه الأمة الشريفة العريقة، وذلك كأمة متفردة، متنوعة، متباينة في المعتقدات والثقافات والموروثات، وعاجزين أيضاً عن وضع أسس ومبادئ تربوية ومناهج تستطيع أن تصهر كل هذا التنوع والتباين في قالب واحد، يتسع لكل هذه الثقافات الموروثات.
فإننا ندعي في هذه السطور بأن قادة الفكر التربوي، مازالت تسيطر عليهم المبادئ والأسس التربوية العقيمة والنظريات المتهالكة، التي رسم ملامحها المستعمر، وذلك منذ إنشاء المدارس الأولية في السودان وحتى قيام بخت الرضا، فهم, أي القيادات التربوية الوطنية, عاجزون تماماً عن أخذ ما هو مفيد ونافع واستخلاص كل ما هو متوافق مع طبيعة الأمة السودانية ذات الأعراق والتقاليد والموروثات المتباينة، فالمستعمر وإن كانت أهدافه من إنشاء المدارس الأولية معروفة لدى الكثيرين آنذاك، إلا أن الوطنيين سائرون على نهجهم الذي اختطوه والطرق التي رسموها لنا نحو الرقي والتقدم والحضارة، فسلمنا بأكثرها إن لم تكن كلها، لذا ما زلنا قبائل، وجهات متفرقة، متناحرة متباينة، لا تعرف ما معنى مفهوم الأمة والوطن، ولا يرسخ في وجدانها هذا الاعتقاد، وذلك لأن به كثيرا من الشوائب العالقة التي لم نستطع التخلص منها حتى الآن. ومن ثم أصبحنا نتجرع مرارات الفرقة والخلاف والشتات, الذي أول ما تبدو ملامحه في عقول علمائنا ومفكرينا وقادتنا وساستنا، كأن سموم المعرفة والعلم يتجدد مفعولها في الطبائع والنفوس وتشتعل حتى ولو لم تمسسها نار. وكل ذلك نتيجة للغرس الخاطئ والقاصر للمبادئ والأسس التربوية السليمة، وطرق غرس قيم الدين والوطن ومفهوم الأمة الواحدة مع غياب القدوة الحسنة والنموذج الذي يحتذى في أجيالنا الماضية.
والذي لا يخفي على الكثير من قياداتنا التربوية وساستنا أن المستعمر استفاد بصور ذكية وأساليب متنوعة وسامة ونفث سمومه في كثرة التنوع القبلي والتباين العرقي والثقافي، ساعده في ذلك اتساع الرقعة الجغرافية لهذا الوطن القارة، فغرس كثيراً من الأسس والمبادئ السالبة في نفوس أبناء الأمة حتى تكون عاجزة وقاصرة عن النهوض بنفسها وبناء مستقبلها المستمد من تاريخها وأمجادها وبطولاتها.
ومن ثم تسهل قيادتها في المستقبل متى ما أرادوا ذلك، والاستفادة من خيراتها ومقدراتها وتسخيرها لخدمة أهداف لا تدرك نتائجها في حينها. فأول ما التفت المستعمر، التفت إلى التعليم الديني والتربية الدينية التي كان يقوم بها شيوخ الخلاوي، فعمل على محاربتها بأساليبه الخبيثة، ولما دان له الوطن كله، بدأ في إنشاء المدارس ذات التعليم الحديث كما سماه هو ومن ثم توظيف خريجي هذه المدارس ومدحهم والاهتمام بهم وتلميعهم في مجتمعاتهم, كل ذلك على حساب الخلاوي، فأصبحت مدارسه جذابة، براقة وأصبحت الخلوة طاردة منفرة. وأهدافه المكشوفة والمعروفة يطمح بها الى القضاء على هذا النوع من التربية والتعليم حتى لا تخرج له الخلاوي مهديا آخر، أو ود حبوبة ثائرا، والكثيرين من أمثالهم، ولكن برعاية الله لهذه الأمة وحفظها أنجبت لهم مدارسهم التي أنشأها، علي عبد اللطيف والأزهري والمحجوب وعبد الرحمن علي طه وغيرهم من أفذاذ ونوابغ الأمة السودانية عبر كفاحها الطويل. وإن كانوا يحملون في جوانحهم أدران التعليم الحديث ووصفاته التربوية السامة. والحقيقة المرة هي أن الأمة السودانية رغم مضي نصف قرن على استقلالها إلا أنها ما زالت تقدم رجلا وتؤخر أخرى في ميادين التربية والتعليم، وفي وضع المناهج والمقررات الدراسية الكفيلة بالنهوض بها نحو مستقبل مشرق وغد واعد.
فما من نظام حكم هذا السودان الواسع الشاسع إلا ومس المناهج والمقررات الدراسية، سلبا أو إيجابا، والخطير في الأمر أنه يمس الجوهر والمبادئ التي أقيمت عليها هذه المناهج وفصلت لها تلك المقررات. وذلك كله إيمانا بفلسفته هو ورؤاه التي يؤمن بها ويراها من منطلق ثقافته التي يتمتع بها والتربية التي ترعرع ونشأ على مبادئها، وبالطبع لا ينقصه المنظرون والمشرعون والذين لا يخلون من أدران تربوية مستعصية، علمانية وشيوعية ورأسمالية وغيرها من المدارس الفكرية الغربية، ويقمحون أنفسهم في ميادين التربية والتعليم، ومن ثم تبدأ عمليات الهدم والبناء وتغيير فلسفات ومناهج بفلسفات ومناهج لا تقدم ولا تؤخر إن لم تزد الطين بلة. ولا يهم في كل هذا التكاليف المادية والمعنوية والروحية والتربوية المترتبة على القيام بمثل هذا العمل الخطير، الذي ربما كلف الأمة ضياع مقدرات وفقدان جيل كامل في أية حقبة من الحقب شهدت عمليات التغيير والحذف والتعديل.
نخلص إلى أنه من الواجب الحتمي أن تجرى عمليات التطوير والتعديل لمناهجنا التربوية ومقرراتنا الدراسية, لكن بشرط أن يكون هذا العمل في الاتجاهات الايجابية فقط لمجابهة التطورات المتسارعة في أوجه الحياة المختلفة وسبل كسب العيش والأساليب المتنوعة للحفاظ على كيان الأمة ووحدتها وتماسكها، ولابد أن يكون تعديلا لا يمس المبادئ التي أسست عليها هذه المناهج إن كانت هذه المناهج في طياتها أسس وقيم تعمل على بناء أمة سودانية ذات خصائص ومميزات وسمات تظهر في الفرد الواحد وكأنه خلية في جسد واحد. ويظهر ذلك في سلوكه وطبيعة تفكيره واتجاهاته وميوله، ولا يصعب الحكم عليه بأنه سوداني رضع من ثدي هذه الأمة العريقة، يحمل في جوانحه قيماً دينية سمحة وموروثات وثقافات متنوعة، مغروسة في نفسه, جذورها الضاربة في أعماق وجدانه وكيانه، فروعها السماحة والتآلف والتآخي والتراحم والتوحد والاحترام والعمل الجاد المثمر. فمن المؤسف حقاً أن ترى الآن أمماً متقدمة في جميع أوجه الحياة وذلك بفضل الأنشطة التربوية والعلمية والمناهج المخططة بأسس ومبادئ ثابتة، وقد كانت هذه الأمم في ماضيها صفرا، لا تستند على حضارة مثلنا ولا تغذيها عقيدة راسخة سليمة تشحذ همم أبنائها وتثقف عقول نوابغها وتلهم علماءها، ولا تمتلك موروثاً ضخماً يكون لها زاداً في ثقافاتها وآدابها وفنونها، نراها وقد خلقت لها تاريخاً من العدم ومجداً من النظم، واختطت لنفسها طريقاً لا يضل نحو النهوض بحاضرها والاستشراق لمستقبلها، فما بالنا يعترينا الكثير من التخبط والتردد والخلط والسباحة في تيارات الفلسفات التربوية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.. طموح هنا، قعود هناك، وشمس هنا وظلام هناك. فإذا قارنا أنفسنا بالدول العربية والأفريقية التي من حولنا، تجدنا نحن متفوقون عليهم في كل شيء، حضارة وتراثاً وقيماً وعادات وثقافة وعقيدة, إلا المناهج التربوية المستقرة والأساليب العقيمة التي لم تبن على أسس علمية ذات فائدة ملموسة ومخرجات إيجابية ملحوظة.
فالعالم السوداني الذي يحمل أعلى الشهادات وأدق التخصصات, والذي بالطبع يفوق أقرانه ورصفاءه في الدول النامية الأخرى، طاقة ونشاطاً، وإبداعاً، وابتكاراً، وجداً واجتهاداً وكل ذلك بشرط أن يغترب خارج حدود الوطن السودان. فهناك وما أدراك ما هناك، يشار إليه بالبنان لأنه أحد ركائز العلم والمعرفة وقاعدة من قواعد البناء والتطوير التي ترفع من شأن ذلك البلد الذي يعمل فيه, بغض النظر عن العامل السوداني خارج الحدود وما يتميز به من كفاءة ودقة وأمانة وانضباط, و... و.... أما العالم صاحب الإنتاج الفكري الغزير والفكر الخلاق في مختلف أوجه النشاطات الفكرية الأخرى، أستاذاً جامعياً أو طبيباً أو مهندساً أو مديراً لشركة اقتصادية يندر أن تجد مثيلاً للسوداني وما يتمتع به من صفات تجعله في مركز القيادة في كل شيء طالما هو مغترب، أي أن ثمرة النشاط الفكري التي تعود على الأمة السودانية لا طعم لها ولا رائحة من جراء اغتراب العالم، فالسودان يناله منها القشور والدعاية والإعلان، لأن مخرجات هذا العالم تبني في أجيال أمم أخرى وإن ربطتنا بهم وشاج الدين والدم واللسان. أما الذين يخدمون في الغرب فلا داعي لأن نذكر هنا العائد الإيجابي على الوطن السودان وعلى الأمة السودانية، فالغرب لا يجعلك عالماً أو مفكراً إلا خدمة لثقافته وفكره.