سعيد بن جبير صحب حبر الأمة عبد الله بن عباس، ودرس الفقه دراسة وافية مما أهله أن يجلس للفتوي بالكوفة.. حتي أن الذين درسوا سيرة حياته وفقهه يحدثوننا علي أنه كان بداية عصر مهدت الطريق للمذاهب الفقهية التي يعتمد بعضها علي الحديث، والبعض الآخر علي الرأي.
وسعيد قد بلغ من علمه وفتواه أن قال عنه حصيف: أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير فهو رجل شجاع العقل والقلب، اجتمع عليه الفقهاء علي أنه بجانب ورعه وتقواه لايخشي في الله لومة لائم.. وكان من الطبيعي وهويري الدماء تسفك وألاف الناس تعيش بين أسوار السجون والمعتقلات بلا جريرة علي يد الحجاج، الذي كان يعتبر نفسه الدرع الواقي للدولة الأموية، والخادم المطيع لخلفائها من بني مروان.
وكان من الطبيعي أن يثور عليه رجل مثل التابعي الجليل سعيد بن جبير، فهو يري مظالمه.. ويري فحشه. ويري أخذه الناس بالشبهات، وكانت فرصته أن ينضم إلي عبدالرحمن بن الأشعت الذي كان في مهمة لتأديب الخارجين علي الدولة، وعندما عقد هدفه مع الأعداء تقديرا منه للموقف الذي كان يراه، استهزأ به الحجاج وعزله من منصبه ورفض عبد الرحمن هذا العزل.. وتصدي للحجاج إلا أن الحجاج معززا بقوة الدولة استطاع أن يتغلب علي جيش عبد الرحمن بن الاشعت، بينما أخذ الحجاج في الانتقام فقتل العشرات، وحاكم العشرات.، من الذين قرر محاكمتهم سعيد بن جبير..
والغريب أن أحد الجنود حاول أن يقوم بتهريب سعيد بن جبير.. أو بمعني أدق أن يمهد له طريق الهرب، ولكن سعيد رفض ذلك، وقرر أن يواجه الطاغية، حتي لو كانت في مواجهته النهاية المحتومة
فقد روي المؤرخون أن سعيد بن جبير كان ينهي الحجاج عن الظلم والبطش، كان ينصح الناس بمخالفته وبالوقوف في وجهه، وضاق الحجاج ذرعا بتصرفات سعيد * رضي الله عنه * فاستدعاه ودارت بينهما مناقشة طويلة تدل علي قوة إيمان سعيد، وصدق يقينه، وثبات جنانه وشجاعته في الحق.
قال الحجاج لسعيد: مااسمك؟
قال: سعيد بن جبير
الحجاج: أنت الشقي بن كسير؟
سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك
الحجاج: شقيت وشقي أبوك
سعيد: الغيب يعلمه الله.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظي
سعيد: لوعلمت أنك كذلك لاتخذتك إلها.
الحجاج: مارأيك في علي بن أبي طالب أهو في الجنة أو في النار؟
سعيد: لو دخلتها وعلمت من فيها لعرفت أهلها ولكني مازلت في دار الفناء.
الحجاج: مارأيك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل
الحجاج: أيهما أحب إليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي
الحجاج: فأيهم أرضاهم لله؟
سعيد: علم ذلك عند من يعلم سرهم ونجواهم
الحجاج: لماذا لا تضحك كما نضحك؟
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين، والطين تأكله النار
الحجاج: ولكنا نحن نضحك
سعيد: لأن القلوب لم تستو بعد
الحجاج: اختر لنفسك قتلة أقتلك بها؟
سعيد: أختر أنت ياحجاج.. فو الله لاتقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
الحجاج: أتحب أن أعفو عنك؟
سعيد: ان كان العفو فمن الله
الحجاج: لجنده: اذهبوا به فاقتلوه!
سعيد يضحك وهويتأهب للخروج مع جند الحجاج.
الحجاج: لماذا تضحك؟
سعيد: لأني عجبت من جرأتك علي الله ومن حلم الله عليك.
الحجاج: اقتلوه.. اقتلوه
سعيد: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.
الحجاج: وجهوا وجهه إلي غير القبلة
سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله.
الحجاج: كبوه علي وجهه
سعيد: 'منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري'
الحجاج: اذبحوه!!
سعيد: أما أني أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
ثم رفع رأسه إلي السماء وقال:
خذها مني ياعدو الله حتي نتلاقي يوم الحساب:
'اللهم اقصم أجله، ولا تسلطه علي أحد يقتله من بعدي'
وصعدت دعوة سعيد إلي السماء، فلقيت قبولا واستجابة من الله والواحد القهار.
فلقد أصيب الحجاج بعد قتله لسعيد بن جبير بمرض عضال أفقده عقله، وصار كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكان كلما أفاق من مرضه قال بذعر: مالي ولسعيد بن جبير
وبعد فترة قصيرة من قتل سعيد بن جبير مات الحجاج الثقفي شر موته، وتحققت دعوة سعيد فيه، فلم يسلطه الله علي أحد يقتله من بعده.
وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول:
'ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حتي يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين رواه الترمذي....اللهم انصرنا عليهم وارنا فيهم يوما اسودا يااااالله...