الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين. نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك ونحن على ذلك من الشاهدين. وبعد
إن المجتمعات رهينة التبدل الدائم وقيد الصيرورة المستمرة. ومع ذلك يمكن تبين أشكال متفاوتة للحياة الاجتماعية نوه بها علم الاجتماع الحديث. ثمة شكل يستند إلى إرادة الناس للتعايش معا تمتد جذور العاطفة والنزاعات الخفية والغريزية وروابط الدم تقوى بوادره بالمرونة والمزاولة حتى تغدو بمثابة العادات ثم تنتهي وتتخذ زى العقيدة والإيمان وهو ما يمكن ان ندعوه بالعشير...وهناك شكل آخر ينشأ عن الإرادة الطليقة الواعية الاختيار، يشتد فيه التفكير ولكن تضمر الحيوية ويقل التضامن العفوي ويكثر الأشخاص الذين يسعون وراء أرباحهم وأهوائهم سعيا لا ينيره ضمير ولا ترفضه عقيدة. وهو ما يمكن أن ندعوه بالمجتمع...هذا وان العشير أعلى شأنا من التجمع الذي هو شكل فاسد للمجتمع، لذلك تنشأ في المجتمع المتفرق جماعات يربط بينها حلف أو عهد غايتها التعاون والتضامن.
فكل شعائر الدين، وكل الفروض والواجبات تدريب وتطوير لتحقيق الانسجام على مستوى الفرد والجماعة والكون وخالق الكون. ان قيم الدين في جوهرها هي قيم الإنسان في واقع حركة المجتمع...ومن ثم فحيثما نظرنا إلى شعائر الإسلام وعبادته وفروضه، وجدنا من ورائها هذه الغايات الاجتماعية التي تؤدي إلى الغايات الروحية، فغاية الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر،وتلك غاية اجتماعية، لا تتحقق إلا في واقع حياة الناس، فإذا حققها الإنسان بالجهد والتجرد والإخلاص في العبادة أدت به إلى الغاية الروحية، وهي أحكام صلته الروحية بربه. وهكذا كل الشعائر والعبادات روحية واجتماعية في ذات الوقت2.
إن المجتمع المسلم لا يتألف من أفراد متقوقعين على أنفسهم،مستغرقين في ذاتهم، لأنهم يدركون، أن ذلك يتنافى مع الغاية من الوجود التي لا تتحقق بغير التعاون واستشعار آصرة الأخوة. لقد جدد الإسلام العلاقات بين أفراد المجتمع، وأرسى قواعدها بأحكام، بحيث تؤدي إلى أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته... وكل الآداب والتشريعات التي جاءت في القرآن الكريم، ذات صبغة اجتماعية واضحة وان الهدف منها تنظيم الحياة في المجتمع الإسلامي علي أساس مبادي العدل والمساواة والحق، التي جاء بها الإسلام. ان مجتمعا تسري في أوصاله مثل تلك القيم، لا يمكن أن يتسرب إليه الوهن والاختلال، لان أفراده لا يكتفون بالوقوف عند حدودهم، فذلك حد أدنى – بل إنهم ليتجاوزون ذلك إلى تقديم العون إلى بعضهم بعضا، عملا بما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا بسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومنفرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ).
وبذلك يحقق الفرد طريق العبادة تطوره الاجتماعي، ويسهم في خلق العلاقات السوية بين البشر. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل ان هذه القيم الاجتماعية الكامنة وراء العبادة، تترسخ عن طريق ممارسة العبادة والعمل الصالح بما في ضمير الفرد والجماعات، ليصبح ضمير الفرد ضميرا إجتماعيا بالضرورة. ومن ثم فان صياغة الشخصية البشرية تصبح بممارسة العبادة والعمل بمقتضاها، صياغة جماعة اجتماعية، تترسخ بها قيم الجماعة في نفوس الأفراد، فيصبح كل فرد هو في نهاية المطاف التجسيد الفاعل لقيم مجتمعه... فلا يعود الفرد البشري مجرد فرد عادي، بل يصبح مجتمعا في فرد (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يحمل في ضميره كل الرواد ع والنواهي، إلى جانب ايجابيات السلوك، فيحفظ الله في نفسه وفي مجتمعه وفي الإنسانية من حوله بدافع من داخل نفسه، لا خوفا من سلطة أو رهبة من جهاز خارج ذاته. ومن ثم يصبح القانون امتدادا لما بداخله، ولا يعود شيئا غريبا متصادما لما يحمل من قيم اجتماعية. وإنما لأنه التجسيد الخارجي للقيمة المعنوية الراسخة في تكوينه عن طريق التربية والعبادة والمعاملة. وبذلك تكون العقوبات روادع في حالة فشل ذلك البناء النفسي