كان طريق العلم والتربية الإسلامية الممكن والسائد في ذلك الحين هو طريق الخلاوى لحفظ وتعليم القرآن الكريم-ثم المساجد حيث تعقد حلقات الدرس في فقه الدين والشريعة والعلوم النقلية التي لها صلة بعقائد المسلمين وما يحتاجونه في دنياهم. وفي المساجد كانت حلقات العلم تعقد حول العلماء والمشائخ ويرتادها الشباب والكهول والشيوخ يتلقون مبادي المعرفة الفقهية وأسس المعاملات .
نجد أن بعض السلاطين اهتموا بالخلاوى والمساجد وبذلوا في نشرها أوسع الجهود... وظلوا يجمعون حول مملكتهم مشاهير العلماء ويغرونهم بشتى السبل للإقامة والتدريس في المساجد والخلاوى المنتشرة، كان لهذه السياسة الدينية صداها في بعض أنحاء العالم الخارجي الذي يدين بالإسلام، سيما الجانب المتعلق منها بتشجيع العلماء، ورفع أقدارهم، وإحلالهم من دولتهم مكان التجلة والتقدير، فلم تلبث أن آتت ثمارها يانعة ولم يلبث أن أم دولتهم، بل السودان عامة، عدد غير قليل من العلماء، رغبة في نشر تعاليم الاسلام، وطمعا في منح الشيخ عجيب وعطاياه. جاء عضهم من مصر، وبعضهم الآخر من الحجاز واليمن والمغرب وبغداد. هذا إلى جانب الوطنيين أنفسهم الذين هاجروا إلى مصر والحجاز- حيث كفلت لهم الأروقة هناك وسائل الراحة والطمأنينة- لتلقي مختلف العلوم والمعارف التي أتيحت للإنسان تحصيلها في ذلك الآوان .
يقول صاحب مخطوطة كاتب الشونة وفي أول النصف الثاني من القرن العاشر ولي السلطان أبو سكيكين الشيخ عجيب المانجلك، ففي أول ملكه قدم الشيخ إبراهيم البولاد من مصر إلى دار الشايقية ودرس فيها الفقه، وانتشر الفقه في الجزيرة. ثم بعد يسير قدم الشيخ تاج الدين البهاري . من بغداد وأدخل طريق الصوفية في دار الفونج...ثم قدم السيخ محمد قدم دار بربر، وأدخل فيها مذهب الشافعي، وانتشر مذهبه في الجزيرة .
ثم قدمت المشائخ... ثم قدم حمد ولد زروق في الصبابي، ثم الشيخ المصري دار بربر، ودرس فيها علم التجويد والنحو والرسالة وانتشر علمه في الجزيرة. وقدم جميع هؤلاء المشائخ المذكورين في دولة الشيخ عجيب، ومدتها إحدى وأربعون سنة .
يقول محمد صالح محي الدين: (ان المتأمل المتأني لهذا النص يرينا من تخصصات أولئك العلماء –أنهم كانوا يمثلون الحياة العقلية لذلك العصر أصدق تمثيل،ويلبون حاجة مجتمع السودان الذي كانت تحكمه القيم الإسلامية إلى حد كبير، فقد كان منهم المقري الذي تخصص في تحفيظ القرآن وتدريس علومه من تجويد روايات ونحوها، ومنهم المتكلم الذي سعى لنشر التوحيد، ومنهم الفقيه الذي أخذ على عاتقه تدريس خليل والرسالة وبعض مذاهب الفقه، كما كان منهم اللغوي الذي شغل نفسه بتدريس النحو على أن بغداد اضطلعت بنشر الصوفية في السودان، متخذة من ذلك وسيلة لنشر الإسلام) .
حكام الدولة السنارية اتجهوا بكل عزمهم في جانب نشر العلم والوعي وإزالة الضلالة والوقر من العيون، لأنهم أدركوا ان بالعلم تبنى الأمجاد، يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
فلولا العلم ما سعدت رجال ولا عرف الحلال من الحرام .
وبهذا العزم الصادق نجد أن الدعائم الأولى لنهضة دينية واسعة قد وضعت...على أيدي تلك الصفوة المختارة من العلماء، وهم الأنجم الدراري التي استنار بها السودان من ظلمة هالكة كان يتخبط فيها من وثنية وطقوس مسيحية لم تخطلت بقلوب الناس. يقول الدكتور مصطفى مسعد في كتابه (الإسلام والنوبة في القرون الوسطى): (الواقع أن المجتمع النوبي ظل يعيش في مثل ما عاش قبل دخول المسيحية ولم تختاط العقيدة الجديدة بقلوب الناس واحتفظ النوبيون بكثير من عاداتهم القديمة) .