أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه خطبة الجمعة التي ألقاها الحبيب آدم أحمد يوسف نائب الأمين العام لهيئة شئون الأنصار بمسجد الهجرة بود نوباوي 20 يوليو 2012م الموافق 1 رمضان 1433هـ

الخطبة الأولى

الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون* أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعلى الذين يطيقون فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون* شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
الصوم لغة أيها الأحباب هو الإمساك والامتناع. قال تعالى: مخاطبا مريم عليها وعلى ابنها السلام: (فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم أنسيا). أما شرعا فهو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر الحقيقي وحتى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله وبهذه الطريقة عرفته جميع الشرائع السماوية من لدن آدم وإلى حبيبنا محمد صلوات ربي وتسليماته عليهم أجمعين. قال صلى الله عليه وسلم: (خير الصيام صيام داؤود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما). أما المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فكان كثير الصيام حتى أنه كان يطوي الأيام والشهور. والصيام غايته التقوى قال تعالى: (لعلكم تتقون). إذن الصوم وسيلة لتلك الغاية السامية النبيلة وهو تشبه بالصمدانية تلك الصفة الإلهية وكذلك تشبه بالملائكية أولئك المخلوقات النورانية الذين لا يأكلون ولا يشربون وبين هذا وذاك في الصوم ذبول للجسم وكما قيل كل ذبول للجسم يعقبه سمو في الروح. قال الحكيم:
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
اقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
والصيام صنو القرآن لأن القرآن نزل في شهر الصيام قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). وجاء في الأثر أن الصيام يأتي يوم القيامة ويقول يا ربي إني قد منعت عبدك من الأكل والشرب في النهار فشفعني فيه، ويأتي القرآن ويقول ربي قد منعت عبدك من النوم في الليل فشفعني فيه فيشفعان.
والنفس البشرية تقوى وتهيج بالأكل والشرب والصيام مهذب لها ومنظم لنزعاتها فالصائم دائما ما يحلق في الملكوت الأعلى بالقرب من الأنس الإلهي متشبها بعباد الرحمن الذين اصطفاهم لعبادته الحقة ولقربه وحده لا شريك له. والصائم يحرم نفسه من كل ما تشتهي في نهار رمضان وبذلك تنكسر شوكة الشهوات التي تقود الإنسان إلى الهوى وجاء في الأثر حُفت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات والصيام يعتبر من أعظم وأجل العبادات حيث أن الله تكفل بجزاء الصائم بنفسه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي، والصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، إني صائم والذي نفس محمدٍ بيده لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه). – "أخرجه البخاري".
وقد فهم بعض الناس من هذا الحديث فهما خاطئا حيث أنهم يتعمدون عدم السواك حتى يخرج ذلك الخلوف من فم الصائم، ولكن الحقيقة هي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير السواك وأكثر ما يكون عند الصيام حتى تنقطع تلك الرائحة المزعجة، والخلوف المقصود هو عند الله وليس تلك الرائحة التي تنبعث من عدم السواك. ورمضان أيها الأحباب فرصة لتجديد العهد مع الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) – "أخرجه البخاري". وهو شهر البركات والخيرات والرحمات وشهر الصدقة والتقوى والتقرب إلى الله عز وجل فحري بالمسلمين أن يتراحموا فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود وأكرم الناس وأجود ما يكون في شهر رمضان.
والصوم أيها الأحباب يُذكر بالمحرومين الذين يتضورون جوعا وعطشا وبذلك يلتفت انتباه المرءُ لأولئك الذين يعيشون على هامش الحياة المعذبون في الأرض الذين يلتحفون الأرض ويتغطون بالمساء وإذا جنّ الليل عليهم يسمعون عصافير بطونهم تعلوا وتهبط فيظهر ذلك على قسمات وجوههم من الجوع والحرمان.
فالصيام فرصة لينتبه الأغنياء لتلك الشريحة من المجتمع، ولكن المؤسف حقا أن كثيرا من المسلمين يعتبرون أن الصيام عادة ورثوها عن أسلافهم فالبعض همه أن يدخر الطعام ليتداركه عند الإفطار وقد ذم الإمام المهدي عليه السلام ذلك السلوك بقوله: (وكيف يستفاد من الصوم إذا تدارك الصائم ما فاته في ضحوه ونهاره عند افطاره).
وقد قسم العارفون الصوم إلى ثلاثة درجات:
أولا: صوم خواص الخواص وهو حظ القلب من الجولان إلا في الله وتلك هي الدرجة الأولى. أما الدرجة الثانية فهو صوم الخواص وهو حفظ جميع الجوارح من الآثام. أما الدرجة الثالثة والأخيرة فهو صوم العوام وهو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج في نهار الصوم.
أيها الأحباب.. إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه وبهذا نقول للمرضى والذين لا يُرجى برءُ مرضهم أي المرض المزمن والذي لا يستطيع صاحبه أن يصوم ولو صام يتضاعف المرض وربما يؤدي به إلى التهلكة فهؤلاء من الذين أعطاهم الله الرخصة، والقاعدة الفقهية تقول (حرمة الأبدان تقدم على حرمة الأديان). فعليه مثل هؤلاء رخّص لهم الشارع الحنيف أن يُطعموا بكل يوم فطروه والإطعامُ هو مقدار وجبتين كما ذهب الفقهاء ويقدر اليوم بمبلغ خمسة جنيهات ومن زاد زاد الله له في رزقه ونسبة لظروف المواطنين وخاصة بعد الزيادات الأخيرة في كل السلع الضرورية نهيب بكل المستطيعين أن يمدوا يد العون لإخوانهم في الدين والوطن وأن يتكافلوا ويتراحموا،
(ارحموا من في الأرض يرحمكم من السماء)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى وآله وصحابته الحنفى، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
للجمعة الثالثة على التوالي ظل العسكر يحاصرون هذا المسجد قبل صلاة الجمعة ويستمر الحصار للمسجد والمنازل المجاورة حتى ساعات الليل ومنظر العكسر وهم يحاصرون المسجد والمنازل حوله أشبه بجنود الاحتلال حول الأقصى والسبب كله لأن مجموعة من المواطنين والمواطنات احتشدوا مناهضين سياسات النظام والتي تسببت في ارتفاع أسعار كل السلع الضرورية والتي تضرر منها كل المواطنين ما عدا محسوبي النظام الذين هم المستفيد الأول من استمرار بقاء النظام في سدة الحكم.
إن المواطنين قد عجزوا عن الحصول على لقمة العيش الكريم، وخاصة أولئك الذين لهم أبناء في المدارس والجامعات فإن مصاريف رسوم الدراسة أصبحت ضربا من المستحيل والخيال حتى في مرحلة رياض الأطفال فقد بلغت الملايين من الجنيهات أما المصروف اليومي للطالب أو الطالبة فحدث ولا حرج، لقد بلغت المأساة بالناس إلى حد لا يمكن للمرء أن يتصوره ولكم هذه القصة الواقعية في مجتمعنا، ففي إحدى مدارس العاصمة المثلثة في مرحلة الأساس فقدت إحدى الطالبات مبلغا من المال فأبلغت المعلمة وقامت المعلمة بإغلاق باب الفصل وأخضعت جميع الطالبات إلى تفتيش حقائبهن ولكن إحدى الطالبات رفضت أن تفتش حقيبتها ووصل الأمر إلى مديرة المدرسة فأحضرت المديرة الطالبة إلى مكتبها وأخذت منها الحقيبة ونثرت ما بداخلها على المنضدة ففوجئت المديرة ببقايا سندوتشات الطالبات فسألت الطالبة لماذا تأخذي بقايا الطعام؟ فأجابتها بأن لها إخوة أيتام وهذه هي وجبتهم التي ينتظرونها من شقيقتهم التي تعود من المدرسة!!!!!
يا سبحان الله .. يا سبحان الله هؤلاء هم رعاياكم يا أهل الإنقاذ وما خُفي أعظم ومثل هذه الطالبة وغيرها وهم كثر هؤلاء خير من الذين بلغ بهم الحال مبلغ تلك الطالبة فحدثتهم أنفسهم بأن يسرقوا أو يسلكوا مسلكا غير كريم فتغيرت أخلاقهم فمنهم من باع دينه ومنهم من باع شرفه وكرامته حتى يقتاد وجاء في الأثر (الجوع أخو الكفر). وليس بعد الكفر ذنب، فالذي يبلغ به الحال مبلغ الكفر يمكنه أن يفعل كل شيء:
إذا كنت لم تخشى عاقبة الليالي وتستحي فاصنع ما تشاء

إن حال المواطنين في بلادنا وصل إلى درجة ما كان أن يتخيلها المرء حتى ولو رآها في المنام لفزع، لقد تفككت أسر وأُنتهكت أعراض وانهدمت أخلاق وضاعت معاني وأصيب الناس في أخلاقهم.
وقديما قال الحكيم:
إذا أصيب الناس في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا

لقد كان مجتمعنا فاضلا يُضرب به الأمثال وأذكر قصة حكاها لي الوالد الأمير علي يعقوب الحلو حيث قال في خمسينيات القرن الماضي ذهب ثلاثة شباب سودانيون إلى فرنسا ومنها إلى بريطانيا وعندما ركبوا القطار نسي أحدهم جوازه في الحجرة فعندما أرادوا دخول بريطانيا سأل مسئول الجوازات الشاب السوداني الذي نسي جوازه هل جوازك به تأشيرة دخول إلى بريطانيا فأجاب الشاب بنعم فما كان من المسئول إلا أن سمح له بدخول بريطانيا قائلا (Sudanese never tell lieres) أي السودانيون لا يكذبون، فقد كانت شهادة غيرنا لنا نحن أهل صدق ولكن سياسات النظم القمعية دهورت أوضاعنا الاقتصادية وغيرت كثيرا من أخلاق مواطنينا التي كانت تميزهم عن كثير من سكان العالم، فاليوم تعددت وتنوعت الجريمة وتتطور أسلوبها وكثر الاحتيال والإجرام والذي يطلع على يوميات تحريات الشرطة يشيب رأسه لما يسمع من أنواع جرائم يرتكبها المواطن بُغية الحصول على دريهمات أو لقمة عيش يقتادها وما تحمله الصحف الاجتماعية عبر سطورها اليومية يجعل المرء يخاف على نفسه ومن يعول، إلى هذا الحد وصل مجتمعنا من التفكك والانهيار ورغم ذلك أهل الإنقاذ يتشدقون بالإنجازات الحسية والمعنوية التي يدعونها مما جعل أحد المواطنين يقول طُرفة مفادها أنا أحتاج إلى طبيب عين وأذن، فقيل له يوجد طبيب أذن وأنف وحنجرة ولا يوجد طبيب عين وأذن فقال قلت ذلك لأني الذي أسمعه لا أراه، فمن يجلس إلى مذياعنا أو تلفازنا يسمع أقوال وتصريحات المسئولين يؤكد طلب المواطن الذي يريد تخصص في الأذن والعين. (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون لما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تعملون).