رواية السلفى «1»
عمار علي حسن 11/ 02 / 2014 8:53 صباحاً
Tweet
بوابة شباب الثورة
يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة معرض الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.
ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».
العتبة الأولى
لم تكن البيوت هكذا قبل أن يُولد أبوك، كانت من الطين الأسود مثل لحيتك الكثة، ومع ميلادك أنت، يا ولدى، خلخلها الفلاحون، الذين ترعى فى أكبادهم المهترئة وحوش كاسرة لا أحد يرى أنيابها، فأسقطوها فوق تعرجات الشوارع القديمة، وأقاموا مكانها غابات الأسمنت المتجهمة، التى يتعانق فيها الصهد والصقيع، وتكاد تحجب عن أرواحنا شمس العصر الأليفة.
فى هذه الترعة التى تكاد القمامة تسوِّيها بالشارع الذى يعتليها، كانت ترقص دوامات الماء، ونسبح فيها إلى جانب الأوزّ والبطّ، وتمرق صغار الضفادع بين أرجلنا وأيدينا. تهرع وتلتفّ حول أنفسها، ثم تتقارب أجسادها الدقيقة لتصنع كتلة فاحمة السواد، مثل ذقنك هذا.
قبل أن نقطع الطريق نحو عتبات البيوت المتراصَّة، بجوار تلك الحديقة الشائخة، تعالَ لنبدأ من أول القرية. من نقطة انطلاق حكايتى التى سردتها عليك فى أمسيات طويلة بعد أن طالك الوعى، لكنك لم تسمعها منى أبدًا. ربما لو حكيتها لك وأنت راقد فى حِجر أمك، تملأ عينيك منها وهى تحاول أن تعلمك الكلام، لَتغيرت أشياء كثيرة، وبقيت معى هنا، تدبّ أقدامنا معًا فى الشوارع العتيقة، ولم تطارد الرصاص من جبال «أفغانستان» إلى صحراء «ليبيا»، وليس فى رأسك سوى وهم الكتب الصفراء، وليس فى مخيلتك سوى صورة شيخك وأميرك الذى تمتلئ يديه بالقنابل والدم.
أريد منك أن لا تتعجل حتى ترى بعينيك وتسمع منى، وأنا أحكى لك عن كل عتبة من العتبات الواحدة والعشرين التى نقصدها. وحين أطلب منك فى مكان ما أن تغمض عينيك لترى المعالم القديمة المحفورة فى رأسى أنا، فعليك أن تفعل هذا على الفور، حتى لا يفوتك شىء من زمن أبيك الذى ولَّى. إنه سلفى أنا القريب، وهو غير سلفك، وكل منا له سلف، لكن بعضنا يقف عند أول مشهد تحمله الذاكرة الغضة، وبعضنا يجر أيامنا ليصلها بحكايات القرون الغابرة، أو يفتح بابًا وسيعًا لمن صارت عظامهم ترابًا ناعمًا ليأتوا فُرادَى وجماعات، ويقبضوا بأيديهم الخشنة على رؤوسنا الحائرة، وقلوبنا المرتجفة.
تمهّل فالسؤال الذى طرحته علىّ وأنا أصرخ فى وجهك غضبًا من سيرك الأعمى وراء رجل جاهل يحفظ بعض الكتب المحتشدة بكلمات مهجورة، ويسكبها فى أذنيك، لم يكن من السهل أن أجيب عنه هكذا، شفاهة، فى كلمات أنطقها وستذوب فى المساحة الفاصلة بين خوفى عليك، وغضبك منى.
أنت سألتنى: لماذا أنا هكذا؟
وأنا أجبتك بسؤال: كيف أصبحت أنت هكذا فى غفلة منى؟
سؤالان كان من الممكن أن نسكت عن الإجابة عنهما، وينصرف كل منا إلى سبيله. أنت إلى عماك وأنا إلى طموحى، وقد لا نلتقى أبدًا.
لا أدّعى أننى أبعد منك بصرًا، لكن أدعوك الآن إلى أن تعيش ما عشته، لتعرف كيف أصبحت أنا هكذا؟ وما الذى ينقصك كى لا تصير كما أنت، فَمٌ يلهج بالتسابيح وقلب مظلم، كَلَوْن حذائك، الذى قدِّر له أن يدوس أرضا غريبة.
لا يحزنك قولى، فتلك هى الحقيقة، على الأقل بالنسبة إلىّ، إلى أن أثبت لك صدق ما أدّعى، والأيام بيننا.
تعالَ فى صمت مؤقت، وحين تشعر بالرغبة فى طرح الأسئلة فلا تتردد، فحياتنا فى النهاية قد تكون مجموعة من التفاصيل الفارغة، وقد تكتشف بعد أن تمر بالطرق التى تغبّرت فيها قدماى فى الزمن القديم أن مثل هذه التفاصيل هى التى صنعتنى فى كل الأحوال، صنعت رأسى الذى كان يعجبك ولم يعد، وصنعت مشاعرى التى كنت تسبح فيها لاهيًا منعمًا، ثم لفظتها وخرجت إلى القحط، دون أن تشعر بأى ندم.
هل أبدأ منذ أول جدار فى هذه القرية؟ لا تريد أن تجيب. لا بأس، سأتحمل صمتك حتى النهاية، فكم وقت ضيّعته بعيدًا عنك حتى صِرتَ هكذا، ولم أدرك ما حجم خطيئتى وفجيعتى إلا حين صرخت فى وجهى: أنت كافر. ووصمت أمك بأنها كافرة. تتذكر أننى انتفضت من مكانى هلعًا، وسحبتك من يدك حتى هنا، لنبدأ الرحلة. لم تأتِ معى إلا حين تحدّيتك أنك ستعود إنسانًا جديدًا، وها أنا أبدأ معك أول خطوة فى هذا التحدى. فهل أنت معى؟ أم أنا معك؟ سيّان، لكن ما أدركه جيدًا أننى سأخاطبك من الآن فصاعدًا مثلما كان أبى يخاطبنى. لعلى أستعيدك وأحافظ عليك، كما حافظ أبى علىّ طيلة حياته، مع أنه كان رجلًا بسيطًا، يفك الخط بصعوبة.
هات يدك يا ولدى، وارفع عينيك قليلًا عن مستوى أقدامنا، ثم أغمضهما، وتخيل ما أريد أن أصفه لك، وهو شىء لم يخطر ببالك من قبل، والدنيا مليئة بالغرائب.
فى مستوى بصرك كان يوجد صهريج صغير للمياه، هو فرع من صهريج ضخم كنا نسميه ونحن صغار «البلدية الكبيرة»، كان بها موتور يسحب الماء من جوف الأرض، ويرسله إلى حنفيتين ضخمتين فى القرية، فيملأ الناس قدورهم وبلاليصهم وأزيرتهم، قبل أن يتطوع بعضهم ويشترى طلمبات رفع تقف على رأس وصلات طويلة من المواسير تنتهى فى العمق البعيد، وتضخ الماء فى أوانيهم، دفقات باردة.
الصهريج الصغير كان مقصودًا من بنائه أن يتجمع فيه ماء احتياطى حتى إن تعطل موتور السحب بالصهريج الكبير يجد الناس ما يشربونه إلى أن يتم إصلاحه. لكن انقطعت عنه المياه تمامًا، وجفّ ريقه بمرور الزمن، وأهملته الحكومة، وربما نسيته، فاتخذته سيدة غريبة بيتًا لها.
لم أعرف كثيرًا عن ماضيها، لكن جدتى لأمى كانت تقول إنها تزوجت ولما انجذبت طلَّقها زوجها وتركها تهيم على وجهها، حتى استقر بها المقام فى قريتنا.
كان اسمها «زينب»، وناداها أهل القرية جميعا بالشيخة «زينب»، وتحدثوا عن كراماتها، وقالوا: حين تموت سنبنى لها ضريحًا.
رأيتها كثيرًا فى طفولتى، وشاهدتها جالسة إلى جوار جدتى وهى تسألها فى كل شىء، وتنتظر منها الإجابة فى لهفة، وفى نهاية الجلسة تعطيها ما تريده دومًا، وهو قبضة من الشاى، تجمعها فى راحة يدها، ثم تسفها مرة واحدة، وتمضغها على مهل. كانت هذه هى طريقتها مع الشاى، بينما الكل يحتسيه ويرتشفه ساخنًا مريرًا ذائبًا فى مياه تغلى، بينما البخار يتصاعد نحو الأنف والعينين والجبين.
وفى يوم، يا ولدى، طلبَت هى من جدتى أن تقول لها شيئًا عنى، كانت تلحّ، لا أعرف لماذا؟ وكنت أجلس بينهما تائهًا فى الأخاديد المتعرجة والكثيفة التى تملأ وجه الشيخة «زينب»، وأتابع شفتيها وهما تتمتمان بحروف غير مسموعة، وكانت أمى إلى جوارنا. وضعت الشيخة يدها على رأسى، وتاهت قليلًا، ثم نظرت إلى جدتى وقالت:
- سيعلو نجمه.
وتهللت أسارير جدتى، وغمزتها بعشرة قروش، لكنها ردّتها فى غضب، وقالت لها:
- أنا لا أحب الفلوس.
فمدت الجدة يدها إلى علبة الشاى، وقبضت على تلقيمة كبيرة ومَدّتها إليها، فأقبلت عليها، ودسّتها فى فمها، وراحت تلوكها فى تلذذ.
ثم ضحكت عن أسنان مثرمة وقالت:
- اصبرى حتى أكمل كلامى.
- هو فيه كلام أحلى مما سمعته؟
- فيه كلام أصعب.
- خوفتينى يا شيخة.
- هذا قدر ومكتوب.
وساد صمت، سقطت فيه دمعتان من عينى الشيخة، فمدت طرف جلبابها ومسحتهما، وقالت:
- يولد الميت من الحى.
- بمعنى؟
- سيكون له ابن يعصيه، ويجعل أيامه نكدا فى نكد. ينجرح النجم العالى ويسيل دم وتسقط دموع زى الجمر، وتنفتح أرض كلها رمال وصخر، تصفرّ فيها الريح، وينعق بوم كثير، وتتساقط الأزهار اليانعة أمام النحل الجائع.
كانت تقصدك أنتَ، يا ولدى، وكنتُ أنا طفلًا يوم ألقت هذا الهم الثقيل على رأس جدتى، بعد أن جعلتها تكاد تطير وتمسك النجوم بيديها وترى أى نجم فيها يخص حفيدها المحبوب. وأعادت الجدة هذه النبوءة مرارًا علىّ وأنا كبير، وسنطلب من أمى، التى هى ابنتها، أن تحكيها لك حين نلتقيها فى نهاية رحلتنا هذه. ستحكى ونسمع معًا كل شىء عن الدماء التى سالت، والدموع التى سُحَّت، والجمر الذى يكوى أضلعى.
عرفت كيف أعيش لوعة غيابك عنى، وأنا أتابع الأخبار التى تأتى من الكهوف البعيدة، وأتساءل: كيف يكون ابنى أنا من بين هؤلاء الذين تطلبهم القوة العاتية فى العالم بأسره، ويقول عنهم أغلبية الناس على سطح الأرض إنهم إرهابيون.
هذه الكلمة التى لم تعرفها جدتى، ولا جدتك، ولا الشيخة «زينب». لكن الثالثة حامت حولها دون أن تنطق بها، وعاشت الأولى تردد هذه التهاويم البعيدة حتى هذه اللحظة.
تدور «زينب» فى البيوت، تُجالِس النساء، يسألْنَها عما سمعنه من جدتك، وتتمتم بكلمات جديدة، تتناقلها الألسن بعد أن تضيف إليها. صرت أنت حديث المصاطب وأمام عتبات البيوت فى الليالى القمرية.
كانوا يتحدثون عن أمر فى رحم الغيب عن إنسان سيولد فى زمن لاحق، ربما بعد ما يودّع أغلبهم الدنيا، لكنهم تخيلوه، ثم ألقوه على جسدى وأنا أدب أمامهم فى شوارع التراب. وطالنى الوعى على هذه الحالة، فأدركت منذ سنوات بعيدة أننى أنت، وأنك أنا.
بعضهن، ممن يأخذن كلام الشيخة على أنه قول قاطع لا راد له، كن يمصمصن شفاههن كلما مررت من أمامهن، وأنا ذاهب إلى مدرستى فى البكور، أو إلى أبى فى الحقل بعد الظهيرة.
وسألَت جدتى الشيخ «إسماعيل» إمام المسجد، فضحك وقال لها:
- لا يعلم الغيب إلا الله.
لكنها كانت مستسلمة لكلام الشيخة، وتقول فى نفسها:
- كثير مما قالته لنا رأيناه بأعيننا، وربنا يعطى أسراره لمن يشاء من عباده.
كانت الشيخة «زينب» تعود منهكة بُعَيد العشاء، تتسلل إلى الزراعات لتقضى حاجتها، ثم تعود وتصعد السلم الحديدى حتى تصل إلى فوهة الصهريج، تدس رأسها فى هدوء، وتسحب جسدها لتجد نفسها داخله، مدفونة فى ظلمة شاملة. وكنت أنا أندس تحت غطاء ثقيل فى الغرفة المظلمة التى دسست فيها خطابك، محملقًا فى السقف، لأستعيد حكاية ابنى الذى سيولد بعد سنين، ويعصى أمرى، ويهجرنى مليًّا.
لم تكن الشيخة «زينب» لديها لمبة جاز مثل تلك التى كانت معلقة على جدران البيوت. وكان الناس يقولون إن جوف الصهريج ينيره شعاع يأتى من جنباته، ولا يعرف أحد كيف لا ينطفئ برحيل الشمس. وشكك بعضهم وقالوا إنه انعكاس ضوء القمر على حديد السلم العالى. لكنهم رأوا النور فى ليالى غاب فيها القمر، وملأت السحب الداكنة بطن السماء.
وكان هناك كلب أبيض يهرع من الزراعات فور وصولها، وينام تحت الدرجة الأولى من السلم، باسطًا ذراعيه، وراميًا رأسه على التراب، وعيناه مفتوحتان دومًا. كانت هى تشعر بوصوله، فتطل من فوهة الصهريج، وترمى له كسور الخبز التى حملتها معها من البيوت.
سارت حياتها على منوال واحد، وكبرتُ أنا حتى دخلتُ جامعة القاهرة، وذات يوم كنت عائدًا إلى القرية فى إجازة نصف العام. كانت الأمطار تتساقط بغزارة، ورأيتها قادمة تمد قدميها على مهل فيغطيها الوحل الزَّلِق، وقد ابتلَّت طرحتها. هممت نحوها، وأمسكتها من ذراعها اليمنى، وسرت بها فى حذر حتى وصلت إلى الصهريج. ووجدتها تقول لى:
- اطلع معى حتى يكفّ المطر عن الهطول.
مثلك يا ولدى كان سيسألنى فزعًا:
- كيف تختلى بامرأة من دون محرم؟
وها أنا أضحك وأقول لذهنك الصغير وصدرك الضيق:
- كانت فى مقام جدتى.
وقد لا تعجبك إجابتى فأنت من قوم تشغلهم هذه المسائل أكثر من غيرها، لكن ما سيعجبك طبعًا، وقد يدهشك، أنها يومها رسمت لى ملامحك. جسدك الفارع، وشعرك المجعد فاحم السواد، وقدماك المفرطحتان اللتان نتعب حتى نجد حذاء على مقاسهما، وعيناك الشاردتان على الدوام.
وصفتك يومها كأنها تراك الآن، وحكت لى عن المتاعب التى سألقاها معك وأنت تروغ منى. ما إن أجدك حتى تضيع، ليبدأ عذابى من جديد.
ما الذى يجعل امرأة ريفية بسيطة تعرف أشياء عن ولد سيأتى، ويسافر إلى بلاد الجبال الوعرة والعمائم والخشخاش والرصاص المصبوب، وأنه سيحمل بندقية تلو أخرى، ويقتل من أعدائه خمسة وعشرين، يصطادهم من بين عيونهم، فيخرُّون بلا حِراك، وتسقى دماؤهم حصى الصحراء، ثم يطارد البقية، والشمس تقف منكسرة على سن الجبل، وبعدها تسقط خلفه، ويحل ظلام دامس.
ضحكنا يوم همهمت بهذا، قالت كل شىء بصوت خفيض وكلمات متقطعة وكأنها تناجى نفسها، وضاع همسها فى قهقهاتنا، وجدتك تقول:
- الثأر وراءنا فى كل مكان.
فابتسمت الشيخة:
- ثأر، لكنه كبير، وقد لا يكون ثأرًا أصلًا.
ووصفت جبالًا وكهوفًا ووجوهًا لم نرها، فصرخت فيها الجدة:
- هذا المكان بعيد.
- فى آخر الأرض.
وكانت آخر الأرض التى رأتها جدتك هى بندر «المنيا»، وآخر الأرض التى سمعت عنها وتمنت رؤيتها هى «القاهرة»، وآخر أرض ارتجف قلبها لذكرها هى «سيناء» أيام الحروب و«فلسطين» فى نكبتها الطويلة. ولهذا اعتقدت جدتك يومها أنك ستحمل السلاح فى «سيناء» وانقبض قلبها، وذهنها يستدعى كل الذين استشهدوا هناك، ثم نظرت إلىّ أنا وربَتَتْ على كتفى وقالت:
- ابنك سيكون بطلًا.
وعشتُ يا ولدى على هذا الأمل سنين طويلة، ولما خطفنى وجه أمك أيام الجامعة وسعيت إلى اصطياد قلبها، سألتها بعد أيام من تعارفنا:
- هل تمنحيننى الفرصة لإنجاب البطل المنتظر؟
وشرحت لها نبوءة الشيخة «زينب» فضحكَت يومها، وفى يوم عرسنا حملَت بك، فضحكتُ أنا وقلت لها:
- شاء الله أن يعجّل بميلاد بطلنا.
وحين وُلدتَ نظرنا طويلًا فى وجهك وأنت قطعة لحم حمراء يكسوها زبد أبيض وصراخك يملأ غرفة الولادة التى تفوح فيها رائحة المعقمات، وكل منا يستدعى فى رأسه الحكايات التى تبادلناها معًا عنك فى سنتين ونصف فصلتا بين التعارف والخطبة وبين الزواج.
كنت أقول لزملائى فى العمل بكل ثقة:
- هناك حرب قادمة.
فينظر بعضهم إلى بعض ويقولون:
- السادات بدأ مسيرة السلام.
لكنك لم تذهب إلى «سيناء» ولا حتى إلى «فلسطين» كما فسرنا النبوءة القديمة، إنما ذهبت إلى «أفغانستان». إنه البلد الذى لم يأتِ على لسان الشيخة «زينب» لكنها وصفته، وبقينا سنين نتخيله، تتوه خواطرنا فى وهاد ونجاد ولا نعرف أين نحن؟
يوم وُلدتَ أنت رحلَت هى، كانت مصادفة غريبة، أو هكذا كان القدر، لم نجدها أمامنا لتراك ونسألها:
- أهذا الذى تقصدينه يا شيختنا؟
تركتُك تصرخ إلى جانب أمك على فرشتها، وجريتُ إلى محطة القطار. نظرَت إلىَّ معاتبةً، لكننى قلت لها:
- جاءنى نبأ موت الشيخة «زينب»، ولا بد أن أودّعها.
انتظرونى حتى أشيّعها معهم. مشيت فى جنازتها ألملم الصمت الذى خيَّم على الرؤوس، ثم فجأة انطلق أحدهم: «لا إله إلا الله» فرد عليه الجميع: «محمد رسول الله» رددوها بصوت رخيم مفعم بالشجن فسالت الدموع. كان من بيننا الذين ينتظرون كراماتها. أن يطير النعش ويرفعنا إلى أعلى، أو يجرى ونهرول خلفه، لكن شيئا من هذا لم يحدث.
فقط مات الكلب يوم أن ماتت الشيخة. مشى وراء جنازتها صامتا، لم ينبح قط، حتى حين استفزَّته كلاب القرى المجاورة، التى مر عليها النعش فى تمهّل مستقرًا فوق أكتاف تتبادله، بينما يرفرف طرف من الغطاء الذى يكسوه فى نسمات طرية يهديها النهر السابح على مرمى البصر إلى وجوه المشيعين، وقال بعضهم:
- موت كلبها يوم موتها إحدى كراماتها.
لكن آخرين ردُّوا عليهم:
- هذا من قبيل الوفاء.