منتديات ابناء منطقة الهدى
السلفى رواية 49aw4
اهلا بك ايها الزائر الكريم شرفتنا ونورتنا يزيارتك.
ملحوظه : عند التسجيل الرجاء كتابة الاسم الحقيقى كاملا
(لا للاسماء المستعارة من اجل مزيدا من التواصل)
و نرجو ان تجد ما هو مفيد
منتديات ابناء منطقة الهدى
السلفى رواية 49aw4
اهلا بك ايها الزائر الكريم شرفتنا ونورتنا يزيارتك.
ملحوظه : عند التسجيل الرجاء كتابة الاسم الحقيقى كاملا
(لا للاسماء المستعارة من اجل مزيدا من التواصل)
و نرجو ان تجد ما هو مفيد
منتديات ابناء منطقة الهدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


مرحبا بك يا زائر نور المنتدى بوجودك
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

معا لترقية مستشفي الهدى معا لترقية مستشفي الهدى معا لترقية مستشفي الهدي معا لترقية مستشفي الهدى

المواضيع الأخيرة
            goweto_bilobedنقل عفش بالرياضالسلفى رواية LX155508السبت 24 يوليو 2021 - 16:36 من طرف             goweto_bilobedشركة تخزين اثاث بالرياض شركة البيوتالسلفى رواية LX155508الثلاثاء 18 مايو 2021 - 22:18 من طرف             goweto_bilobedأفضل شركة كشف تسربات المياه بالرياض شركة البيوتالسلفى رواية LX155508الثلاثاء 18 مايو 2021 - 22:17 من طرف             goweto_bilobedشركة نقل اثاث بالرياض السلفى رواية LX155508الثلاثاء 18 مايو 2021 - 22:16 من طرف             goweto_bilobedلكم التحية اين انتمالسلفى رواية LX155508الثلاثاء 18 يوليو 2017 - 4:15 من طرف             goweto_bilobedعودة بلا خروجالسلفى رواية LX155508السبت 30 أبريل 2016 - 14:06 من طرف             goweto_bilobedسلام مربع السلفى رواية LX155508السبت 30 أبريل 2016 - 14:04 من طرف             goweto_bilobedد/تهاني تور الدبة تدق أخر مسمار في نعش مشروع الجزيرةالسلفى رواية LX155508الخميس 25 فبراير 2016 - 1:14 من طرف             goweto_bilobedمعا لترقية مستشفي الهدىالسلفى رواية LX155508الأربعاء 10 فبراير 2016 - 17:58 من طرف             goweto_bilobedهل يمكن رجوع المنتدي لي عهده الأول السلفى رواية LX155508الثلاثاء 9 فبراير 2016 - 0:21 من طرف             goweto_bilobedالدلالات الرمزية في مختارات الطيب صالح: "منسي: إنسان نادر على طريقته!"السلفى رواية LX155508الإثنين 26 أكتوبر 2015 - 18:22 من طرف             goweto_bilobedتحية بعد غيابالسلفى رواية LX155508السبت 24 أكتوبر 2015 - 5:17 من طرف             goweto_bilobedتهنئة بعيد الأضحى المباركالسلفى رواية LX155508الجمعة 25 سبتمبر 2015 - 20:00 من طرف             goweto_bilobedشباب المنتدى المستشفى يناديكمالسلفى رواية LX155508الأربعاء 16 سبتمبر 2015 - 18:36 من طرف             goweto_bilobedتوحيد خطبة الجمعه لنفرة المستشفىالسلفى رواية LX155508الأربعاء 16 سبتمبر 2015 - 18:20 من طرف             goweto_bilobedدكتور اسلام بحيرى وتغيير الفكر الدينى السلفى رواية LX155508السبت 15 أغسطس 2015 - 5:16 من طرف             goweto_bilobedمعقولة بس ... فى ناس كدة السلفى رواية LX155508الخميس 13 أغسطس 2015 - 12:38 من طرف             goweto_bilobedيعني نسيتنا خلااااصالسلفى رواية LX155508الخميس 13 أغسطس 2015 - 12:35 من طرف             goweto_bilobedبيت البكى ااااااااااالسلفى رواية LX155508الثلاثاء 4 أغسطس 2015 - 6:59 من طرف             goweto_bilobedالحاجه فاطمه بت النذير في ذمة اللهالسلفى رواية LX155508الثلاثاء 4 أغسطس 2015 - 6:49 من طرف 

شاطر | 
 

 السلفى رواية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
صديق الماحي
 
 
صديق الماحي

عدد المساهمات : 3466
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1الإثنين 24 فبراير 2014 - 10:37




رواية السلفى «1»


عمار علي حسن 11/ 02 / 2014 8:53 صباحاً





Tweet
بوابة شباب الثورة
يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة معرض الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.

ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».

العتبة الأولى

لم تكن البيوت هكذا قبل أن يُولد أبوك، كانت من الطين الأسود مثل لحيتك الكثة، ومع ميلادك أنت، يا ولدى، خلخلها الفلاحون، الذين ترعى فى أكبادهم المهترئة وحوش كاسرة لا أحد يرى أنيابها، فأسقطوها فوق تعرجات الشوارع القديمة، وأقاموا مكانها غابات الأسمنت المتجهمة، التى يتعانق فيها الصهد والصقيع، وتكاد تحجب عن أرواحنا شمس العصر الأليفة.

فى هذه الترعة التى تكاد القمامة تسوِّيها بالشارع الذى يعتليها، كانت ترقص دوامات الماء، ونسبح فيها إلى جانب الأوزّ والبطّ، وتمرق صغار الضفادع بين أرجلنا وأيدينا. تهرع وتلتفّ حول أنفسها، ثم تتقارب أجسادها الدقيقة لتصنع كتلة فاحمة السواد، مثل ذقنك هذا.

قبل أن نقطع الطريق نحو عتبات البيوت المتراصَّة، بجوار تلك الحديقة الشائخة، تعالَ لنبدأ من أول القرية. من نقطة انطلاق حكايتى التى سردتها عليك فى أمسيات طويلة بعد أن طالك الوعى، لكنك لم تسمعها منى أبدًا. ربما لو حكيتها لك وأنت راقد فى حِجر أمك، تملأ عينيك منها وهى تحاول أن تعلمك الكلام، لَتغيرت أشياء كثيرة، وبقيت معى هنا، تدبّ أقدامنا معًا فى الشوارع العتيقة، ولم تطارد الرصاص من جبال «أفغانستان» إلى صحراء «ليبيا»، وليس فى رأسك سوى وهم الكتب الصفراء، وليس فى مخيلتك سوى صورة شيخك وأميرك الذى تمتلئ يديه بالقنابل والدم.

أريد منك أن لا تتعجل حتى ترى بعينيك وتسمع منى، وأنا أحكى لك عن كل عتبة من العتبات الواحدة والعشرين التى نقصدها. وحين أطلب منك فى مكان ما أن تغمض عينيك لترى المعالم القديمة المحفورة فى رأسى أنا، فعليك أن تفعل هذا على الفور، حتى لا يفوتك شىء من زمن أبيك الذى ولَّى. إنه سلفى أنا القريب، وهو غير سلفك، وكل منا له سلف، لكن بعضنا يقف عند أول مشهد تحمله الذاكرة الغضة، وبعضنا يجر أيامنا ليصلها بحكايات القرون الغابرة، أو يفتح بابًا وسيعًا لمن صارت عظامهم ترابًا ناعمًا ليأتوا فُرادَى وجماعات، ويقبضوا بأيديهم الخشنة على رؤوسنا الحائرة، وقلوبنا المرتجفة.

تمهّل فالسؤال الذى طرحته علىّ وأنا أصرخ فى وجهك غضبًا من سيرك الأعمى وراء رجل جاهل يحفظ بعض الكتب المحتشدة بكلمات مهجورة، ويسكبها فى أذنيك، لم يكن من السهل أن أجيب عنه هكذا، شفاهة، فى كلمات أنطقها وستذوب فى المساحة الفاصلة بين خوفى عليك، وغضبك منى.

أنت سألتنى: لماذا أنا هكذا؟

وأنا أجبتك بسؤال: كيف أصبحت أنت هكذا فى غفلة منى؟

سؤالان كان من الممكن أن نسكت عن الإجابة عنهما، وينصرف كل منا إلى سبيله. أنت إلى عماك وأنا إلى طموحى، وقد لا نلتقى أبدًا.

لا أدّعى أننى أبعد منك بصرًا، لكن أدعوك الآن إلى أن تعيش ما عشته، لتعرف كيف أصبحت أنا هكذا؟ وما الذى ينقصك كى لا تصير كما أنت، فَمٌ يلهج بالتسابيح وقلب مظلم، كَلَوْن حذائك، الذى قدِّر له أن يدوس أرضا غريبة.

لا يحزنك قولى، فتلك هى الحقيقة، على الأقل بالنسبة إلىّ، إلى أن أثبت لك صدق ما أدّعى، والأيام بيننا.

تعالَ فى صمت مؤقت، وحين تشعر بالرغبة فى طرح الأسئلة فلا تتردد، فحياتنا فى النهاية قد تكون مجموعة من التفاصيل الفارغة، وقد تكتشف بعد أن تمر بالطرق التى تغبّرت فيها قدماى فى الزمن القديم أن مثل هذه التفاصيل هى التى صنعتنى فى كل الأحوال، صنعت رأسى الذى كان يعجبك ولم يعد، وصنعت مشاعرى التى كنت تسبح فيها لاهيًا منعمًا، ثم لفظتها وخرجت إلى القحط، دون أن تشعر بأى ندم.

هل أبدأ منذ أول جدار فى هذه القرية؟ لا تريد أن تجيب. لا بأس، سأتحمل صمتك حتى النهاية، فكم وقت ضيّعته بعيدًا عنك حتى صِرتَ هكذا، ولم أدرك ما حجم خطيئتى وفجيعتى إلا حين صرخت فى وجهى: أنت كافر. ووصمت أمك بأنها كافرة. تتذكر أننى انتفضت من مكانى هلعًا، وسحبتك من يدك حتى هنا، لنبدأ الرحلة. لم تأتِ معى إلا حين تحدّيتك أنك ستعود إنسانًا جديدًا، وها أنا أبدأ معك أول خطوة فى هذا التحدى. فهل أنت معى؟ أم أنا معك؟ سيّان، لكن ما أدركه جيدًا أننى سأخاطبك من الآن فصاعدًا مثلما كان أبى يخاطبنى. لعلى أستعيدك وأحافظ عليك، كما حافظ أبى علىّ طيلة حياته، مع أنه كان رجلًا بسيطًا، يفك الخط بصعوبة.

هات يدك يا ولدى، وارفع عينيك قليلًا عن مستوى أقدامنا، ثم أغمضهما، وتخيل ما أريد أن أصفه لك، وهو شىء لم يخطر ببالك من قبل، والدنيا مليئة بالغرائب.

فى مستوى بصرك كان يوجد صهريج صغير للمياه، هو فرع من صهريج ضخم كنا نسميه ونحن صغار «البلدية الكبيرة»، كان بها موتور يسحب الماء من جوف الأرض، ويرسله إلى حنفيتين ضخمتين فى القرية، فيملأ الناس قدورهم وبلاليصهم وأزيرتهم، قبل أن يتطوع بعضهم ويشترى طلمبات رفع تقف على رأس وصلات طويلة من المواسير تنتهى فى العمق البعيد، وتضخ الماء فى أوانيهم، دفقات باردة.

الصهريج الصغير كان مقصودًا من بنائه أن يتجمع فيه ماء احتياطى حتى إن تعطل موتور السحب بالصهريج الكبير يجد الناس ما يشربونه إلى أن يتم إصلاحه. لكن انقطعت عنه المياه تمامًا، وجفّ ريقه بمرور الزمن، وأهملته الحكومة، وربما نسيته، فاتخذته سيدة غريبة بيتًا لها.

لم أعرف كثيرًا عن ماضيها، لكن جدتى لأمى كانت تقول إنها تزوجت ولما انجذبت طلَّقها زوجها وتركها تهيم على وجهها، حتى استقر بها المقام فى قريتنا.

كان اسمها «زينب»، وناداها أهل القرية جميعا بالشيخة «زينب»، وتحدثوا عن كراماتها، وقالوا: حين تموت سنبنى لها ضريحًا.

رأيتها كثيرًا فى طفولتى، وشاهدتها جالسة إلى جوار جدتى وهى تسألها فى كل شىء، وتنتظر منها الإجابة فى لهفة، وفى نهاية الجلسة تعطيها ما تريده دومًا، وهو قبضة من الشاى، تجمعها فى راحة يدها، ثم تسفها مرة واحدة، وتمضغها على مهل. كانت هذه هى طريقتها مع الشاى، بينما الكل يحتسيه ويرتشفه ساخنًا مريرًا ذائبًا فى مياه تغلى، بينما البخار يتصاعد نحو الأنف والعينين والجبين.

وفى يوم، يا ولدى، طلبَت هى من جدتى أن تقول لها شيئًا عنى، كانت تلحّ، لا أعرف لماذا؟ وكنت أجلس بينهما تائهًا فى الأخاديد المتعرجة والكثيفة التى تملأ وجه الشيخة «زينب»، وأتابع شفتيها وهما تتمتمان بحروف غير مسموعة، وكانت أمى إلى جوارنا. وضعت الشيخة يدها على رأسى، وتاهت قليلًا، ثم نظرت إلى جدتى وقالت:

- سيعلو نجمه.

وتهللت أسارير جدتى، وغمزتها بعشرة قروش، لكنها ردّتها فى غضب، وقالت لها:

- أنا لا أحب الفلوس.

فمدت الجدة يدها إلى علبة الشاى، وقبضت على تلقيمة كبيرة ومَدّتها إليها، فأقبلت عليها، ودسّتها فى فمها، وراحت تلوكها فى تلذذ.

ثم ضحكت عن أسنان مثرمة وقالت:

- اصبرى حتى أكمل كلامى.

- هو فيه كلام أحلى مما سمعته؟

- فيه كلام أصعب.

- خوفتينى يا شيخة.

- هذا قدر ومكتوب.

وساد صمت، سقطت فيه دمعتان من عينى الشيخة، فمدت طرف جلبابها ومسحتهما، وقالت:

- يولد الميت من الحى.

- بمعنى؟

- سيكون له ابن يعصيه، ويجعل أيامه نكدا فى نكد. ينجرح النجم العالى ويسيل دم وتسقط دموع زى الجمر، وتنفتح أرض كلها رمال وصخر، تصفرّ فيها الريح، وينعق بوم كثير، وتتساقط الأزهار اليانعة أمام النحل الجائع.

كانت تقصدك أنتَ، يا ولدى، وكنتُ أنا طفلًا يوم ألقت هذا الهم الثقيل على رأس جدتى، بعد أن جعلتها تكاد تطير وتمسك النجوم بيديها وترى أى نجم فيها يخص حفيدها المحبوب. وأعادت الجدة هذه النبوءة مرارًا علىّ وأنا كبير، وسنطلب من أمى، التى هى ابنتها، أن تحكيها لك حين نلتقيها فى نهاية رحلتنا هذه. ستحكى ونسمع معًا كل شىء عن الدماء التى سالت، والدموع التى سُحَّت، والجمر الذى يكوى أضلعى.

عرفت كيف أعيش لوعة غيابك عنى، وأنا أتابع الأخبار التى تأتى من الكهوف البعيدة، وأتساءل: كيف يكون ابنى أنا من بين هؤلاء الذين تطلبهم القوة العاتية فى العالم بأسره، ويقول عنهم أغلبية الناس على سطح الأرض إنهم إرهابيون.

هذه الكلمة التى لم تعرفها جدتى، ولا جدتك، ولا الشيخة «زينب». لكن الثالثة حامت حولها دون أن تنطق بها، وعاشت الأولى تردد هذه التهاويم البعيدة حتى هذه اللحظة.

تدور «زينب» فى البيوت، تُجالِس النساء، يسألْنَها عما سمعنه من جدتك، وتتمتم بكلمات جديدة، تتناقلها الألسن بعد أن تضيف إليها. صرت أنت حديث المصاطب وأمام عتبات البيوت فى الليالى القمرية.

كانوا يتحدثون عن أمر فى رحم الغيب عن إنسان سيولد فى زمن لاحق، ربما بعد ما يودّع أغلبهم الدنيا، لكنهم تخيلوه، ثم ألقوه على جسدى وأنا أدب أمامهم فى شوارع التراب. وطالنى الوعى على هذه الحالة، فأدركت منذ سنوات بعيدة أننى أنت، وأنك أنا.

بعضهن، ممن يأخذن كلام الشيخة على أنه قول قاطع لا راد له، كن يمصمصن شفاههن كلما مررت من أمامهن، وأنا ذاهب إلى مدرستى فى البكور، أو إلى أبى فى الحقل بعد الظهيرة.

وسألَت جدتى الشيخ «إسماعيل» إمام المسجد، فضحك وقال لها:

- لا يعلم الغيب إلا الله.

لكنها كانت مستسلمة لكلام الشيخة، وتقول فى نفسها:

- كثير مما قالته لنا رأيناه بأعيننا، وربنا يعطى أسراره لمن يشاء من عباده.

كانت الشيخة «زينب» تعود منهكة بُعَيد العشاء، تتسلل إلى الزراعات لتقضى حاجتها، ثم تعود وتصعد السلم الحديدى حتى تصل إلى فوهة الصهريج، تدس رأسها فى هدوء، وتسحب جسدها لتجد نفسها داخله، مدفونة فى ظلمة شاملة. وكنت أنا أندس تحت غطاء ثقيل فى الغرفة المظلمة التى دسست فيها خطابك، محملقًا فى السقف، لأستعيد حكاية ابنى الذى سيولد بعد سنين، ويعصى أمرى، ويهجرنى مليًّا.

لم تكن الشيخة «زينب» لديها لمبة جاز مثل تلك التى كانت معلقة على جدران البيوت. وكان الناس يقولون إن جوف الصهريج ينيره شعاع يأتى من جنباته، ولا يعرف أحد كيف لا ينطفئ برحيل الشمس. وشكك بعضهم وقالوا إنه انعكاس ضوء القمر على حديد السلم العالى. لكنهم رأوا النور فى ليالى غاب فيها القمر، وملأت السحب الداكنة بطن السماء.

وكان هناك كلب أبيض يهرع من الزراعات فور وصولها، وينام تحت الدرجة الأولى من السلم، باسطًا ذراعيه، وراميًا رأسه على التراب، وعيناه مفتوحتان دومًا. كانت هى تشعر بوصوله، فتطل من فوهة الصهريج، وترمى له كسور الخبز التى حملتها معها من البيوت.

سارت حياتها على منوال واحد، وكبرتُ أنا حتى دخلتُ جامعة القاهرة، وذات يوم كنت عائدًا إلى القرية فى إجازة نصف العام. كانت الأمطار تتساقط بغزارة، ورأيتها قادمة تمد قدميها على مهل فيغطيها الوحل الزَّلِق، وقد ابتلَّت طرحتها. هممت نحوها، وأمسكتها من ذراعها اليمنى، وسرت بها فى حذر حتى وصلت إلى الصهريج. ووجدتها تقول لى:

- اطلع معى حتى يكفّ المطر عن الهطول.

مثلك يا ولدى كان سيسألنى فزعًا:

- كيف تختلى بامرأة من دون محرم؟

وها أنا أضحك وأقول لذهنك الصغير وصدرك الضيق:

- كانت فى مقام جدتى.

وقد لا تعجبك إجابتى فأنت من قوم تشغلهم هذه المسائل أكثر من غيرها، لكن ما سيعجبك طبعًا، وقد يدهشك، أنها يومها رسمت لى ملامحك. جسدك الفارع، وشعرك المجعد فاحم السواد، وقدماك المفرطحتان اللتان نتعب حتى نجد حذاء على مقاسهما، وعيناك الشاردتان على الدوام.

وصفتك يومها كأنها تراك الآن، وحكت لى عن المتاعب التى سألقاها معك وأنت تروغ منى. ما إن أجدك حتى تضيع، ليبدأ عذابى من جديد.

ما الذى يجعل امرأة ريفية بسيطة تعرف أشياء عن ولد سيأتى، ويسافر إلى بلاد الجبال الوعرة والعمائم والخشخاش والرصاص المصبوب، وأنه سيحمل بندقية تلو أخرى، ويقتل من أعدائه خمسة وعشرين، يصطادهم من بين عيونهم، فيخرُّون بلا حِراك، وتسقى دماؤهم حصى الصحراء، ثم يطارد البقية، والشمس تقف منكسرة على سن الجبل، وبعدها تسقط خلفه، ويحل ظلام دامس.

ضحكنا يوم همهمت بهذا، قالت كل شىء بصوت خفيض وكلمات متقطعة وكأنها تناجى نفسها، وضاع همسها فى قهقهاتنا، وجدتك تقول:

- الثأر وراءنا فى كل مكان.

فابتسمت الشيخة:

- ثأر، لكنه كبير، وقد لا يكون ثأرًا أصلًا.

ووصفت جبالًا وكهوفًا ووجوهًا لم نرها، فصرخت فيها الجدة:

- هذا المكان بعيد.

- فى آخر الأرض.

وكانت آخر الأرض التى رأتها جدتك هى بندر «المنيا»، وآخر الأرض التى سمعت عنها وتمنت رؤيتها هى «القاهرة»، وآخر أرض ارتجف قلبها لذكرها هى «سيناء» أيام الحروب و«فلسطين» فى نكبتها الطويلة. ولهذا اعتقدت جدتك يومها أنك ستحمل السلاح فى «سيناء» وانقبض قلبها، وذهنها يستدعى كل الذين استشهدوا هناك، ثم نظرت إلىّ أنا وربَتَتْ على كتفى وقالت:

- ابنك سيكون بطلًا.

وعشتُ يا ولدى على هذا الأمل سنين طويلة، ولما خطفنى وجه أمك أيام الجامعة وسعيت إلى اصطياد قلبها، سألتها بعد أيام من تعارفنا:

- هل تمنحيننى الفرصة لإنجاب البطل المنتظر؟

وشرحت لها نبوءة الشيخة «زينب» فضحكَت يومها، وفى يوم عرسنا حملَت بك، فضحكتُ أنا وقلت لها:

- شاء الله أن يعجّل بميلاد بطلنا.

وحين وُلدتَ نظرنا طويلًا فى وجهك وأنت قطعة لحم حمراء يكسوها زبد أبيض وصراخك يملأ غرفة الولادة التى تفوح فيها رائحة المعقمات، وكل منا يستدعى فى رأسه الحكايات التى تبادلناها معًا عنك فى سنتين ونصف فصلتا بين التعارف والخطبة وبين الزواج.

كنت أقول لزملائى فى العمل بكل ثقة:

- هناك حرب قادمة.

فينظر بعضهم إلى بعض ويقولون:

- السادات بدأ مسيرة السلام.

لكنك لم تذهب إلى «سيناء» ولا حتى إلى «فلسطين» كما فسرنا النبوءة القديمة، إنما ذهبت إلى «أفغانستان». إنه البلد الذى لم يأتِ على لسان الشيخة «زينب» لكنها وصفته، وبقينا سنين نتخيله، تتوه خواطرنا فى وهاد ونجاد ولا نعرف أين نحن؟

يوم وُلدتَ أنت رحلَت هى، كانت مصادفة غريبة، أو هكذا كان القدر، لم نجدها أمامنا لتراك ونسألها:

- أهذا الذى تقصدينه يا شيختنا؟

تركتُك تصرخ إلى جانب أمك على فرشتها، وجريتُ إلى محطة القطار. نظرَت إلىَّ معاتبةً، لكننى قلت لها:

- جاءنى نبأ موت الشيخة «زينب»، ولا بد أن أودّعها.

انتظرونى حتى أشيّعها معهم. مشيت فى جنازتها ألملم الصمت الذى خيَّم على الرؤوس، ثم فجأة انطلق أحدهم: «لا إله إلا الله» فرد عليه الجميع: «محمد رسول الله» رددوها بصوت رخيم مفعم بالشجن فسالت الدموع. كان من بيننا الذين ينتظرون كراماتها. أن يطير النعش ويرفعنا إلى أعلى، أو يجرى ونهرول خلفه، لكن شيئا من هذا لم يحدث.

فقط مات الكلب يوم أن ماتت الشيخة. مشى وراء جنازتها صامتا، لم ينبح قط، حتى حين استفزَّته كلاب القرى المجاورة، التى مر عليها النعش فى تمهّل مستقرًا فوق أكتاف تتبادله، بينما يرفرف طرف من الغطاء الذى يكسوه فى نسمات طرية يهديها النهر السابح على مرمى البصر إلى وجوه المشيعين، وقال بعضهم:

- موت كلبها يوم موتها إحدى كراماتها.

لكن آخرين ردُّوا عليهم:

- هذا من قبيل الوفاء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صديق الماحي
 
 
صديق الماحي

عدد المساهمات : 3466
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: رد: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1الإثنين 24 فبراير 2014 - 10:51

العتبة الثالثة: امرأة كالنسيم اسم على مسمى.. صبوحة عفيفة.. تقترن فى غفلة من الزمن بالفاجر الجبار


لكننى يا ولدى تركت لها الغرفة والشقة وسلالم البيت وأحذية العابرين الخشنة وجئت هنا لأبوح لك بكل شىء


هنا فى مكانى ستكون السيدة التى أمامى عجوزًا تتوكأ على أيامها الطويلة التى تمر فى هدوء

لكن كرامات الشيخة توالت بمرور الأيام، فكل ما تنبأت به راح يجرى، ووقع أبوك، يا ولدى، فى قلب كراماتها ونبوءاتها، فها أنت قد كبرت، نبت لك شارب ولحية، فحلقت الأول وتركت الثانية. كنت تدوس عليه بالموسى حتى يكاد الجلد يتقشر، بينما أعفيت الثانية من كل شىء إلا مشط أبيض كبير تضعه فى جيب جلبابك الأبيض أيضًا، تغمسه دومًا بين خيوط الشعر فاحم السواد، فينسدل أكثر على صدرك. وكنت كلما سألتك تقول:

ـ هذه سُنة الرسول.

وضحكت ذات يوم وقلت لك:

ـ كان الرسول يترك شعر رأسه مسترسلًا على كتفيه وكان يضفره، فافعل مثله.

كنت تلوذ بالصمت وتقول:

ـ لا أستطيع أن أفعل هذا.

ـ لم؟ هكذا سألتك بصوت لم يخل من غيظ، وأجبتنى بصوت خفيض:

ـ التقاليد.

قهقهت يومها وقلت لك:

ـ كانت بعض تقاليدهم فماتوا عليها فصارت لديكم سُنة.

وامتلأ وجهك بالغيظ، وقبل أن ترد علىّ بما يظهر غضبك واصلت أنا، وسألتك:

ـ ترى لو كان فى «جزيرة العرب» قديمًا حلاقون مهرة ألم يكن من الممكن أن يتغير كل شىء؟

وضربت عليك ذلة ومسكنة واحتار أمرك، لكنك جريت إلى غرفتك وأحضرت كتبا ذات أغلفة مقوية، خضراء وحمراء، وعناوينها مكتوبة بماء الذهب، وقلت لى:

ـ اقرأ، بدلًا من الولع بسيرة الشيخة «زينب» الجاهلة.

فقلت لك:

ـ سامحك الله، تركت الجوهر وأمسكت فى المظاهر الفارغة.

ولما تركتنى ذات يوم وهربت إلى «أفغانستان»، قلت لأمك والألم يأكل روحى:

ـ هكذا قالت الشيخة فى الزمان الأول.

فابتل وجهها بدموع غزيرة وقالت:

ـ يعطى سره لأضعف خلقه.

ولما استبد بنا يأس قاتم، برق أمل خاطف ذات ليلة من قيعان الذاكرة، فانتفضت من مكانى راقصًا، فظنت أمك أننى قد مسنى جنون، أو أننى أهتز من فرط الألم، لكننى استعدت كل شىء كما أمكن لذاكرتى أن تحمله، وقلت لها:

ـ جاء الفرج.

فامتلأ وجهها دهشة، وتمتمت فى سرها بكلمات لم تصل إلى مسامعى، ثم تطلعت لتسمع ما أريد أن أبلغها به.

جلست على الأريكة، ورميت رأسى إلى الوراء، وأنا ألهث، فمى مفتوح عن آخره من الهواء الخارج من صدرى، ومن الأمل الذى استيقظ وغمر وجدانى.

وقتها، يا ولدى، رأيت «الشيخة زينب» تجلس قبالة أمك. لم تكن هى، بل كان طيفها. لم يكن طيفها بل هى. لا أدرى، حتى هذه اللحظة التى أحدثك فيها، إن كان طيفًا أم جسدًا؟ لكن أمك لم تشعر بوجودها. هكذا أدركت لأنها لم تنظر إلى جانبها، لترى ما أرى، ولم تسمع ما قالته لى الشيخة، وهو ما كانت جدتك قد سمعته فى الأيام البعيدة، ورددته كثيرًا أمامى وأنا صغير وهى تضحك، كما استقر فى رأسها وعبّر عنه لسانها، ولا أدرى كيف نسيت هذا وأنا أرسف فى أغلال الدنيا وهمومها، كل هذه السنين.

فجأة جاء ما قالته الشيخة الطيبة، كماء بارد غمر نار صدرى الموقدة، وجعل صورة البيوت القديمة المتداعية تملأ عينىّ، ووجوه الراحلين ومن يكابدون أوجاع الشيخوخة المعتقة، تترى أمامى بلا توقف، ثم تبتسم، وأجد أيادى كثيرة تمتد إلىّ. ثمانية عشرة يدًا معروقة ترفرف، ثم تزحف فى بطء نحو يدى، وواحد وعشرين فمًا تقول فى صوت واحد:

ـ تعال.

نطقوها بصوت مبحوح كثغاء الماعز، واحد وعشرون صوتًا، من كل عتبة صوت، تجمعوا وامتزجوا فى صوت واحد، يشبه صوت «الشيخة زينب» تماما. أطلقوا فعل أمر، لم أستنكفه، بل تأثرت به إلى درجة أن وجيب قلبى قد ارتفع، وتفصد العرق من مسام جلد وجهى، وتقاطر فوق قميصى.

نهضت من مكانى، ومددت يدى إلى آخر ما أمكنها، وأمك، يا ولدى، مذهولة مما ترى، وحائزة حيال رجلها الذى كان راسخًا وقورًا منذ قليل، يرتع فى صمته، فإذا هو يهذى. حسبت هى وقتها أننى تائه، أتخبط فى أوهام وهلاوس وضلالات لا أستطيع فكاكًا منها، وكادت تقوم لتغلق باب الغرفة، حتى لا أنفلت فى الشوارع وأنا أكلم نفسى، فينفلت هذيانى، ليعبر باب الشقة الموارب قليلا، وينسكب على سلالم البيت ثم يتوزع تحت أحذية العابرين، فيدوسونه ويسخرون منى، وقد يلسعنى بعضهم بكلمات قاسية.

لكننى، يا ولدى، تركت لها الغرفة والشقة وسلالم البيت وأحذية العابرين الخشنة، وجئت هنا لأبوح لك بكل شىء هنا بين الذين يرقد الزمن فى عيونهم، وهم يتمهلون فى كل شىء. يمكن لثرثرتى أن تتبعثر فى التراب المبلول، فتنبت حكايات عنى وعنك. هنا لن يقول أحد إننى لا أراك وأنا أراك، وإننى لا أحدثك وأنا أحدثك، فما تراه عينى يرونه، وما تسمعه أذنى يسمعونه، حتى لو ما أمام البصر سرابًا، وعند الأذن صمتًا رائقًا. كل البيوت مفتوحة أمامى وأمامك، فلتقف عند العتبات التى تفتح حضنها لكل من يعبرها، ويدلف إلى الداخل غير عابئ بأنينها من خشونة قدميه التى قددتها شمس الحقول، وفرطحها السعى الدؤوب وراء الرزق.

هنا فوق شوارع من تراب نسير سويًّا، يدى فى يدك، هاتها، هى هنا تملأ كفى، لكننى لا أشعر بملمسها. هل تركت جسدك هناك فى صحارى «ليبيا» الشاسعة، لكن ما الذى أقبض عليه الآن؟ هل يمكن أن نمسك الروح بيدنا، تدوس فيها أصابعها؟ ربما هى لأننى أمسكك دون أن أشعر بملمس جسمك الذى أحفظه جيدًا، منذ أن كنت أجلس إلى جانب أمك أساعدها فى استحمامك، حتى آخر مرة أخذتك فى حضنى وجفلت منى قبل أن تغادرنى كل هذه السنين.

لا أدرى، يا ولدى، فأنا أسير مترنحًا من فرط الأسى، لا أمسك شيئًا سوى كلام الشيخة «زينب» الذى رمته بصوت غير صوتها، وكأن حنجرتها قد تبدلت فى ثانية واحدة، ثم تركت جدتى تتقلب فى وحل الحروف. وقبل أن تطير روح الجدة إلى الأفق الأعلى جاءت بأمى، وكررت على أذنيها كلام الشيخة كما نطقته، وكنت وقتها قد كبرت، فأصخت السمع إليها مندهشًا، إذ صار صوتها يشبه صوت الشيخة تمامًا، وأخرجت الحروف من فمها على الطريقة نفسها التى خرجت فى زمن مضى.

ترى من كان يتكلم وقتها يا ولدى؟ فأنا لا أعرف هل حلت روح الشيخة فى هذه اللحظة فى لسان جدتك؟ أم أن الأصوات القديمة التى سبق أن امتزجت وأعطت صوتها للشيخة قد تجمعت من جديد لتعطى الصوت نفسه إلى جدتك؟

سمعتها أمى، التى هى جدتك، وتعجبت مما آل إليه صوت أمها، فاقتربت منى وقالت:

ـ كأننا نودع الشيخة «زينب».

فهززت رأسى صامتًا، وتركتها تمسح دموعها، وتكمل:

ـ كلتاهما تبشرك بأيام عصيبة.

مددت يدى وكفكفت دموع أمى، وأنا أقول لها:

ـ خليك مع الله.

كنت أواسى نفسى وأواسيها. بل أواسيها وأواسى نفسى، وظللت سنوات طويلة وأنا أرفل فى عزوبيتى منتشيًا بشمخة الصبا والشباب، ولا يكدرنى سوى تذكر كلام الشيخة «زينب» الذى أعادته جدتك، وحفظته أمى على قدر ما وسعها، وجمعت أنا منه ما قدرت عليه، بعد أن سمعته ذات ليلة فى بيت «غندور» مخاوى الجن. لكنه كان يأتينى فى المنام كابوسًا قاهرًا.

فى هذه الليلة البعيدة تكلمت «الشيخة» بلسان غير لسانها، ولا أدرى، يا ولدى، من كان يتكلم وقتها؟ هى أم قرينتها فى عالم الجن؟ أم يا ترى ملاك طاهر حل بجسدها أو كان يرعاها؟ أم شىء نائم فى رأسها واستيقظ فشطرها نصفين، وصارت اثنتين؟ أم كنت أنا أتخيل أو أتوهم فى شرودى وحزنى؟ أم كانت خاطرة اجتاحتنى كطوفان غادر؟ لا أدرى، لكننى أعى كل ما قيل حتى هذه اللحظة عن العتبات الواحدة والعشرين، أو الواحدة والعشرين عتبة. وما قيل، يا ولدى، قالته الشيخة، عتبة وراء أختها، ونحن ننصت حتى انتهت. لا أزال أعرف ما تفوهت به، ويمكننى أن أتلوه على مسامعك الآن بلا أدنى عناء، وها هو:

العتبة الأولى: أنا، وصهريج بيتى، الذى سيهدمه الطامعون، دار معلق فى وجه الريح له عتبة غير العتبات، وهذه فقط التى أكشفها لك، لأنها جلية كشمس نهار الصيف، منها البداية، ولا رجوع إليها، وبعدها حيرة مقيمة.

العتبة الثانية: الرجل الذى لا صلى ولا صام، لكنه صمت وهام، إلى أن جاءه اليقين، فركع وجاع، لتسمو روحه وتنخطف على بعد خطوات من السفر الأخير، بعد أن كان يجرى من تحت قدميه ماء، ويمد بيده ماء إلى العابرين وهو يبتسم تائهًا.

العتبة الثالثة: امرأة كالنسيم، اسم على مسمى، صبوحة عفيفة، تقترن فى غفلة من الزمن بالفاجر الجبار، وتعاند الألم، وترعى الظل، وتتركه ليرطب رؤوس العابرين فى لفح الهجير.

العتبة الرابعة: راعى الغنم الذى يطوق الحكمة بذراعيه حتى لا يخطفها السفهاء، يعيش حتى ينحنى ويدفن رأسه فى قدميه، ويجحده من كان يطيعه، ويعطيه ظهره متجهمًا، لكنه يقابل هذا بابتسامة تقطر بمحبة دائمة، لتغسل أوجاع المشيب.

العتبة الخامسة: الصخرة العنيدة كبغل هرِم، والمسنونة كإبرة صدئة، تصير رملًا ناعمًا فى لحظة خاطفة، تستريح للمسه الأقدام المجهدة من طول الترحال. والوجيه المغرور يتواضع، ويلملم العبوس الذى أقام على وجهه سنين، ليفرش البسمات، ويتبدل شره المستطير خيرًا عميمًا.

العتبة السادسة: حاملة الأفراح والأتراح النائمة فوق سطور تعانق الأبيض الفارغ، تعبر سريعًا، فى غفلة من الزمن، قنطرة هشة بين الصبا والكهولة، لتمضى حياتها قاسية فوق أرض بور، منتظرة العابر الذى خطف عذريتها فى لحظة وهرب بعيدًا، ولم يرسل لها سوى جمرات من عظمه المتفحم راحت تتساقط، بلا رحمة، على وجهها الذى قددته الأيام العصيبة.

العتبة السابعة: الأسود الرائع المنبوذ، الذى يميط الأذى من طريق أناس يوجعونه بهجرهم، تتحقق له الهيبة بفضل ورعه وأخلاقه، ومن أجل هذا يرمى كثيرون أحجارًا فى بحيرة آسنة، فتهتز، ويتبعثر العفن تباعًا، ليأكله صهد الشمس، وموجات الريح، ويتدفق الماء النمير.

العتبة الثامنة: الحائر بين نصف اسمه، وكل رسمه، يرق كالنسيم ثم يهيج كالعاصفة، وينقل قدميه بين أرقام مبعثرة، ويجلس ليملمها فى حضنه متوهما أنه يمتلك كل شىء، لكن يولد من يصلبه من يعلمه أن العلم لا يجافى الجمال.

العتبة التاسعة: جنوبى صغير، تحط الصحراء على رأسه، وتتناثر فوقها أحراش عفنة، تتساقط يابسة بمرور الأيام على كتفين عريضين، يرتفعان ويملآن جلبابًا فضفاضًا، يهفهف بين وردة وعود ريحان، بعد أن تنغرس القدمان فى الأرض الجديدة، وتنبت الجذور المقطوعة.

العتبة العاشرة: المسكين الذى يتغرب سابحًا فى بحار الرمل والحصى، ويدع أزهاره جائعة، تجف وهى ملقاة إلى جانب جدران سوداء محنية، والبطون التى تئن فارغة لا تجد سوى العبد الصالح ليملأها، فينفتح طريقًا واسعًا لم يجد به الخيِّرون، فيذهب الجوع، وتكبر الأجسام، وتملأ عيون من كانوا لا يرونها أبدًا.

العتبة الحادية عشرة: فاتنة طيبة، ذات قلب موصول بالسماء، وحظ مطمور فى سابع أرض. تحبس عشقها الغض، لكنه لا ينام، ولا يشيخ، فتهدهده وتروض أحلامها الجامحة، لتمضى حياتها رتيبة. حين تشرق يسيل لعاب كثيرين فتجبرهم على أن يلملموا رذاذ رغباتهم المتوحشة ويتحسروا، غير عارفين بأن وجدانها لا يحمل إلا صورة شخص واحد، ولا يردد إلا صوتًا واحدًا، يقول بلا انقطاع: الله محبة.

العتبة الثانية عشرة: جسد يفور، وعقل يغور، لصبى نزق، يعطى ظهره لعجوز ورث عنه عينيه الشرهتين، وأنانيته المفرطة، وبطنه الذى لا يشبع. فى يوم يمضى إلى رحلتين، واحدة قصيرة الزمن والمسافة إلى رغيف ناشف، وثانية إلى لقمة طرية، مغموسة فى الدم واللهيب، تأخذه هذه إلى النهاية المحتومة، ويفتح وراءه نوافذ الأسئلة الصعبة.

العتبة الثالثة عشرة: العازف الذى تتمدد على أوتار قلبه ربابة أكبر منه عمرًا، يوقعه المدعى الكاذب فى نار الحيرة، فتأخذه أنت إلى رحلة قصيرة، تتساقط فيها الحروف فوق رأسيكما، ويعود منها منشرح الصدر، فتصدح موسيقى، تخرج من فوهات داره، وتنساب فى الشوارع والحارات لتروى نفوسًا عطشى.

العتبة الرابعة عشرة: الرجل الذى يخرج الدخان من أنفه وأصابعه ويصادق القادمين من عالم الغيب، ستقصده أنت ذات ليلة لتنزع الشوك من صدرك، والحنظل الراقد فى فمك، لكنه سيهديك تحت سقف العتمة حزمة من الشوك، وكومة من الحنظل، وستسمع عنده صوتى، الذى أودعته فى رحاب الدنيا، بعد أن فارقتها بزمن طويل، فتستعيد الواحد والعشرين عتبة من جديد، لتمضى نحو حضور الغياب، وغياب الحضور.

العتبة الخامسة عشرة: تكبر شجرة التوت أمام باب الرجل الطيب، الذى يحلم بزمن يرعى فيه الذئب مع الغنم، والعجل مع الشبل، لكن أحلامه النبيلة تذهب سدى، وكل ما يقوله للناس يشعرون كثيرًا أنه بلا جدوى، لكنه يربى الأمل دومًا، فلا يموت أبدًا، بل يجلس تحت الأغصان الهائمة فى نسيم عليل ملفوفًا ببقايا الشمس العائدة إلى بيتها، يوزع التوت بيمناه، والرجاء بيسراه.

العتبة السادسة عشرة: حين يدخلك العيش تقصد صانعة البهجة محمولًا فوق رغبة جامحة وتلال من الظنون وأنت تمنِّى نفسك كثيرًا بأنك ستقضى منها وطرًا. لكن الجذابة الفاتنة تصدك وتردك، وترى منها وجهًا غير الذى رأيته من قبل أو كنت تنتظره، فتعود كاسف البال، لكنك تربح عصمة من الرزيلة، وتجنى حكمة ستعيش معك إلى أن تلقى الله.

العتبة السابعة عشرة: الرجل الذى يتصرف بلا حياء فيتساقط لحم وجهه بلا انقطاع يقف أمام بيوت الله مادًّا يده ولسانه، ليهمس فى آذان كثيرين فيسوقهم إلى المحرقة. تقصده أنت ذات ليلة تحت جنح الظلام، وفى رأسك اختلاط بين سؤال عن الغائب الحبيب وآخر، يشغل الناس ولا يعنيك، عن الكنز المخبوء، لكن أسئلتك لا تذهب، بل يولد غيرها، وتنتهى الطرق من تحت قدميك فى فراغ.

العتبة الثامنة عشرة: الحارس الصلد يخور ذات ليلة، لأن أصحاب اللحى خرجوا عليه فى الليل البهيم، ليقولوا لمن يطاردونهم بلا هوادة: نحن هنا، وخيّروه دون أن يتفوهوا بكلمة واحدة بين أن يموت أو أن يموت، فاختار إحدى الموتتين، وعاش بقية حياته كسيرًا، لا صناعة له إلا اجترار هذه اللحظة القاسية.

العتبة التاسعة عشرة: رفيق الطفولة الكذوب، الذى يفارقك فى الصبا بعد أن يبتلعه أصحاب اللحى الخفيفة، يروغ منك حين تلجأ إليه ملهوفًا لتبل ريقك بأى خبر عن الحبيب الغائب، تقف أمام بابه، بينما يتطاير حولك غبار السنين وأزهار كالقطن ترقص فى شبه الدائرة المألوفة لديك، فتملأ عينيك حكايات مفرحة من أيامك الغضة، فلا تلبث أن تهشها، وتعود لتسقط فى بئر أحزانك.

العتبة العشرون: الطيب الذى يدفن وجهه فى الذهب الأحمر المعلق عند طرف الأرض الغربى سيعطيك المفتاح من بين سطور الكتاب المُكَرم، وعليك أن تجد الباب، وأنت تائه بين الصحو والمحو.

العتبة الحادية والعشرون: هنا فى مكانى، ستكون السيدة التى أمامى عجوزًا تتوكأ على أيامها الطويلة التى تمر فى هدوء، وستكون أنت قد غزا الشيب فوديك ومفرقك. هنا قد تجد كل شىء بين يديك، أو فى رأسك، صلب وهواء امتلاء وخواء، فتريث ولا تظلمنى، فليس كل الغائبين لا نراهم، وليس كل الحاضرين نراهم، والحاضر فى غيابه أفضل من الغائب فى حضوره، فلتسكن أوجاعك باسم الله، ولتهدأ نفسك بفضله.. ولتعرف أن لكل بداية نهاية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صديق الماحي
 
 
صديق الماحي

عدد المساهمات : 3466
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: رد: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1الثلاثاء 25 فبراير 2014 - 12:30


إذهب للتعليقات




Tweet










نواصل نشر رواية عمار على حسن «سلفى» الحلقة الثالثة






نشر: 16/2/2014 10:40 ص – تحديث 16/2/2014 10:40 ص



يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.

ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».



حين انتهت الشيخة «زينب» مِن ذكر كل ما أتى على لسانها عن العتبات الواحدة والعشرين، وقفت أمى، وتكدّر وجهها، وصرخت متسائلة:


- واحدة وعشرون عتبة ولا نهاية للألم؟

وهزّت الشيخة رأسها، وقالت:

- لا تتعجّلى، وما جاء الآن ليس كل ما يجىء، والدعاء الموقن صاحبه بالإجابة قد يُغيّر القدر، والأيام دوّارة، ولا يعطى الله من علم الغيب لأى عبد إلا القليل، وتفاءلى بالخير تجديه.

كانت لا تزال تتحدّث بصوت غير صوتها، وربما بلسان غير لسانها، وكنت أنا تائها وخائفا، ألوذ بصمت تام، وكانت أمى مثلى، لكن وجهها تضرج بدم أزرق، واتسع بياض عينَيْها.

وسألت أمى:

ـ وهل بتخطّى العتبات ينفك النحس، ويغور الشر، ويعود الضائع؟

تنحنحت الشيخة، وارتد إليها صوتها الذى نعرفه من سنين، وقامت من مكانها فرأيتها فى هذه اللحظة وكأنها صهريج صغير، أصغر من ذلك الذى تقطنه. اقتربت منها وأنا أزحف على ركبتى، ثم وقفت حيالها، ومددت يدى وأمسكت كتفها اليسرى، وقلت على قدر ما وعيت:

- وهل سيكون ولدى الوحيد؟

فابتسمت الشيخة وردت فى عجالة:

- مع التيس ستكون عنزة حلوة.

لم أفهم ما تعنيه، لكن أمى فهمت، فنظرت إلىّ وقالت:

- سيرزقك الله ببنت جميلة مع الولد.

ثم التفتت إلى الشيخة «زينب»، وأعادت عليها السؤال من جديد:

- إن تخطّت العتبات يعود الغائب؟

وعندها بدأت الشيخة تنفض ما علق بجلبابها من غبار وقش، وهى تقول:

- ليس كل من ذهب قد غاب، وليس كل من عاد حضر.

لكن هذا الكلام الغامض لم يعجب أمى، فقالت لها فى غيظ شديد:

- تفتحين علينا بابا واسعا تأتينا منه ريح مسمومة ستضنينا عمرا كاملا، ولا تريدين أن تغلقى ولو ضلفة واحدة، نجلس تحت ظلها نربّى الأمل، وتصدّ عنا بعض هذا الهواء القاتل.

زامت الشيخة، وتمتمت بما لم أسمعه وقتها، وجلست فى المكان الذى كانت تجلس فيه، والغبار والقش يزحف على جلبابها، وصمتت أطول من المعتاد، ثم فجأة تغيّر صوتها مرة أخرى ونطقت:

ـ تتلاقى الأرواح وتتناجى، وإن كانت بين الأجساد بحار من الرمل، ورمال من الماء، وجبال تحجب الشمس.

وعندها امتلأ وجه أمى بالدهشة، وفاض علىّ فاندهشت مثلها، لكنها سألت الشيخة وأنا صامت:

- أتقصدين أنه سيغيب، ولن يعود، ولن يكون أمام ابنى من سبيل سوى مناجاة روح حفيدى؟

وعاد الصوت:

- لا تقولينى ما لم أقله، ولا علم لى إلا بما قلت.

وزفرت أمى:

- تعودين مرة أخرى إلى المراوغة يا شيخة؟

- أنا لا أراوغ يا أم الصبى، بل أمشى على قدر ما أمامى من طريق، لا أحدد أنا طوله أو قصره.

لم تفصح، يا ولدى، يومها عن أكثر من هذا، وهكذا فعلت فى كل الأيام اللاحقة، حتى قبل وفاتها بساعات قليلة، حين سألتها أمى:

- هل هناك من جديد؟

فهزت رأسها نافية، وبعدها لم تنطق بحرف، لكننى سمعت، فى ما بعد هذا بسنين طويلة، ما نطقت به الشيخة عن العتبات الواحدة والعشرين، ورحت ألملم كل شىء حتى أكملها، متمسكا بالأمل الذى ربيته فى قلبى كل هذه المسافة من عمرى، وأنا أقول لنفسى كل صباح: حين تكتمل العتبات سأجدك.

حتى وأنا على البعد، كنت متواصلا مع كل ما يجرى فى قريتنا هذه، أتساءل بلا توقف، وأمعن النظر فى الإجابات بذهن متوقد، وبصيرة نافذة، وأضع الواقعة جنب أختها، حتى أصل إلى صاحب أو صاحبة أى من هذه العتبات، فلما اكتملت أمامى أتيت إلى هنا لنستعيد كل شىء.

وحين سمع نسوة القرية عن ما قالته الشيخة فى شأنى، ذهبن إليها كى تقول لهن شيئا عن مستقبل أولادهن، لكنها أبت، وقالت: لا أعرف إلا عن هذا الولد، ووضعت يدها على رأسى. وكان ما يطمئننى فى معاركى التى خضتها فى دأب وصبر، ضد التيار الدينى، أن هذه المرأة الصالحة لم يؤذن لها بالحديث عن أحد غيرى، من كل أطفال القرية.

وقضيت السنين، يا ولدى، أستعيد ما قالته الشيخة، وأمى معى. تحكى، وأمسك القلم، وأكتب رقم العتبة، واسم الشخص المقصود، فى البداية كان الأمر غامضا، فكثير من الأحداث التى أوجزتها الشيخة «زينب» لم يكن قد وقعت بعدُ، ولذا كان من الصعب أن نعرف مَن تقصد؟ لكن بمرور الأيام راح كل شىء يتكشّف أمام أعيننا.

هل تعرف أننى جئت بلوحة من ورق مقوّى، ورسمت فوقها جدولا، ليس فيه سوى خانتين، وكتبت على رأس الأولى كلمة «العتبات» وتحتها تندرج أرقاما من واحد إلى واحد وعشرين. والثانية مكتوب على رأسها: «صاحب العتبة»، وكلما اكتملت المعلومات وحددت ملامح واحد ممن قصدتهم الشيخة، كتبت اسمه، وانتهيت منه، وتابعت غيره، فلما امتلأت الخانات كلها، جلست على الأرض تحت اللوحة، ووضعت رأسى على كفى، وأغمضت عينىّ، وتدفقت الذكريات.

رأيت وجوه أصحاب العتبات على اللوحة، رجالا ونساء، وخلفهم بيوت أناخ عليها الدهر، ينام ظل جدرانها على رؤوسهم، ووجوهم تنضح بابتسامات معتقة، واستعدت أيامى التى تسرّبت منى بين أكتفاهم، لأجد نفسى طفلا صغيرا، يدبّ فى شوارع ترابية حميمة، وعيناه معلّقتان برقاب المتعبين الذين يهزون الأيام، فتتساقط عليهم حكايات ممتعة وموجعة.

ولأن الشيخة تركتنى، يا ولدى، متقلبا بين روحك وجسدك، كان لدى وقت كافٍ كى أفهم أننى سأسترجعك حين أرش على صدرك، بلا انقطاع، ماءً طهورا مِن ينابيعى القديمة التى غمرونى فيها سنين، منذ أن حبوت، وتعلمت النطق، حتى فارقت هذه القرية الوديعة الغافية، سعيا وراء رزقى فى زحام المدينة.

جئت لأحكى لك وتسمعنى، بجوارى كنت أو بعيدا عنى، ألمسك أو أشعر بك فقط، المهم أنك ستسمع. ولن أتوقف عن الكلام، وأنا أنقل قدمىّ فى مسارب قديمة تصنعها بيوت استجدت، ترمم بعضها، أو أزيل لتقوم مكانه غابة من الأسمنت. سأحكى لك عن سلفى أنا، وهو غير سلفك أنت، ولن يمنعنى خطابك الذى ألقاه ساعى البريد فى وجهى، فذرفت دموعى بمجرد أن رأيت حروف اسمك مطبوعة فوق المظروف ذى الأطراف الملوّنة، ورحت أتشمّمه، وأسحب شهيقا لعل عرق أصابعك يسكن رئتىّ، لكن حين فتحته لم أجد سوى الفجيعة.

العتبة الثانية

انظر يا ولدى، هذا أول جدار، وأول دار فى قريتنا، يملكه رجل غريب اسمه «سليم السويركى»، جاء أبوه مهاجرا من الصحراء. هل هرب من ثأر أم فرّ من الجوع؟ لا أحد يعلم، لأنه حين وصل، قال له الناس: يا شيخ العرب. سار فى الطريق نفسه الذى بدأه من جاءوا مع عمرو بن العاص فاتحين بلدنا. ضربوا خيامهم على أطراف الصحراء، وظلوا يرمقون الفلاحين من بعيد، ويأكلون من حصاد أياديهم دون أن يعتنوا بما يزرعون. ومرّت السنون، حتى خلعوا جلابيبهم، وحاكوا سراويل لا تنغرس فى الطين ولا يبللها ماء النيل الجارى، وأمسكوا الفؤوس بأيدٍ خجولة، ثم توالت ضرباتهم فى الأرض، حتى صاروا فلاحين، يُقدّسون الأرض، ويفتخرون بشغلهم. بعضهم ذاب فى متحف الأجناس البشرى الرهيب الذى يُقام على كل خريطة بلدنا، وبعضهم احتفظ بنسبه، يتباهى به فى الأفراح أو ليالى السمر.

الرجل الغريب عاش وتزوج قريبة لنا، وأنجب اثنين من الذكور، أحدهما صاحب هذه الدار. أنا لم أرَ الأب، لكن وجه ابنه كان أول ما يُطالعنى حين أعود إلى القرية من غربتى. يهل بعمامة كبيرة وجسد عريض، ويبش فى عينى ويقول:

- أهلا بحبيبى وابن حبيبى.

لكن ما علاقة هذا الرجل بما تريد أن تقول؟ إنه السؤال الذى يدور فى رأسك يا ولدى، وتبغى الآن أن توجهه لى بهاتين الشفتين المزمومتين فى ضجر، لكن كما قلت لك لا تتعجّل، وامضِ معى حتى آخر عتبة.

لم ينجب سليم، صاحب الدار التى أمامنا، سوى بنت من زوجته، وهذا قليل فى قريتنا، لكنه عاش معها صابرا. فكر فى يوم أن يتزوج بأخرى، وكان يذهب إليها فى قرية مجاورة راكبا حمارته البيضاء، ذات الأذن المقطوعة، ويضع أمامه المذياع الذى لا يملك أى أداة للترفيه غيره، ويتراقص على الأغنيات التى يسكبها فى الفراغ، وتطرب لها شواشى النخل وأغصان الشجر وهامات الزرع الممتد فى بساط أخضر رائق. لكنه لم يلبث أن عدّل عن فكرته هذه، واكتفى بابنته، ربّاها حتى استدارت فى أنوثة ظاهرة، ثم زوجها لقريب له، ينحدر من بطن أخرى من القبيلة، ويقطن قرية تقف متواضعة على الجانب الآخر من شريط السكك الحديد، وعلى طرف الصحراء الغربية الوسيعة.

لم يفعل الرجل مثل شيخك الذى يمتلك أربع فيلات فاخرة متجاورة، يضع فى كل واحدة زوجة، ويجلس بينهن، وذهنه غير مشغول إلا بالوصفات الطبية التى تمكّنه من إشباعهن. يشتريها من حصيلة ببيع أسطواناته التى تتزاحم فى درج مكتبك، وليست سوى قراءة ركيكة فى كتب قديمة، وكذلك الأموال التى تتدفّق على جيبه ممن يستخدمونه بوقا كبيرا لمشروع جهنمى لا يعرف هو حدوده، لكنه يخدمه بكل ما أوتى من قوة، وحسب القاعدة الشهيرة التى تنادى بالحفاظ على المبلغ، والبقاء فى دائرة الضوء بأى ثمن.

سليم السويركى لم يكن يقتنى سوى مذياع، يسكب فى أذنيه الموسيقى، فيطرب لأم كلثوم، ويخشع لصوت الشيخ عبد الباسط، لكننى لم أره يصلّى أبدا. كان يصوم مع الصائمين. يزرع ويحصد، ويضحك للداخلين إلى القرية والخارجين منها.

قبل موته بشهور قليلة، جاءت مجموعة من «جماعة التبليغ والدعوة» إلى القرية، ملأوا فوهة الجسر بجلابيبهم البيضاء ولحاهم، والصرر التى تتدلّى خلف ظهورهم، وتحت ذيول عمائمهم المميزة. لمّا رآهم تعجّب من منظرهم. كان المشهد جديدا عليه، لكنه راح يُمارس هوايته:

- أهلا بالضيوف، أهلا وسهلا، يا ألف مرحبا.

توقّفوا أمام باب الدار، ثم استأذنوا فى الدخول. جلسوا على المصاطب التى كانت تتوازى فى باحة أمامية، تجرى إلى جانبها مياه الترعة، وتقف فى وسطها شجرة ظليلة، عند جذعها زير ضخم ينضح بالماء.

مدّوا أيديهم وشربوا، كما كان يشرب كل العابرين، وسليم لا يتأفف أبدا فى ملئه طيلة النهار لكل مَن يريد الارتواء.. فلاحون عائدون من الحقول بحلوق جافة، ومارون من القرى المجاورة قادمون من سوق البندر.

سألوه بعد أن شربوا الشاى:

- هل تُصلّى؟

فابتسم وقال:

- أسمع إذاعة القرآن الكريم، وأصوم، وأزرع الأرض، وأملأ الزير، وأضحك فى وجوه كل العابرين، وقلبى يطير ساعات فى السماء، ويدقّ بقوة حين أتذكّر الله، وعيناى تدمعان حين أرى النجوم البعيدة.

هز كبيرهم رأسه، ثم رفع هامته، ونظر إلى وجه سليم، وقال:

- كل هذا رائع، لكنه لا يُغنى عن الصلاة.

ثم قاموا وقالوا له:

- سننتظرك فى المسجد قبل صلاة العصر.

لكن العصر والمغرب مرّا ولم يذهب، فأرسلوا أحدهم يطرق بابه قبيل العشاء، وأبواب كل الذين مروا بهم فى الطريق إلى المسجد ولم يتبعوهم.

ردت عليهم زوجته:

- راح الغيط.

اعتكفوا فى المسجد عشرة أيام، وكان يتهرب منهم، ويقول لهم:

- كل شىء بإذن الله، وله أوانه.

ثم يتذكر «إسماعيل» شيخ الجامع الذى كان كلما مرّ به ابتسم له وسأله:

- ألم يأذن الله بعد يا سليم؟

فيردّ مبتسما أيضا:

- لم يأذن يا مولانا.

كان الشيخ يسأله عن الصلاة، وكان سليم يعرف ما يقصد، ويستعيد كل محاولات «إسماعيل» لأخذه إلى المسجد، ثم يطأطئ رأسه أسفا، ويشرد قليلا، مختليا بنفسه، بعد أن يعطى ظهره للناس والبهائم والزرع، وكل ما يربطه بالتراب، ليجد عينيه تفيضان بالدموع.

وحين حزم رجال «جماعة التبليغ والدعوة» أمتعتهم البسيطة وهمّوا بالرحيل، مروا بداره، أول دار للقادمين إلى قريتنا وآخر دار للذاهبين منها، وقفوا أمامه وقالوا له:

- نرجو من الله لك الهداية، وأن نراك فى المسجد حين نأتى مرة أخرى.

شربوا من الزير، وراحوا ينسحبون على الجسر فى هدوء، حتى صاروا بقعة بيضاء تتأرجح فوق التراب الواقف بين الأسود والأصفر، والمستكين بين ذراعى الزرع الأخضر.

ما أن اختفوا فى عينيه حتى قام سليم، وغرف كوز مياه من الزير، وقال لزوجته:

- كيف أتوضّأ؟

لكنها كانت مثله، لا تعرف.

ثم ضحكت وقالت:

- لماذا لم تسأل الشيوخ؟

أجابها بكل بساطة:

- لا أعرف.

فكّر قليلا ثم قال لها:

- سخّنى جردل مياه.

وجاء بالطشت، وسحبه إلى الغرفة الداخلية، وخلع ملابسه، وصبّ على كل جسده، ثم ارتدى ملابس نظيفة، وأحضر المذياع، وأدار المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، لكن الشيخ عبد الباسط لم يكن يتلو فى هذه اللحظة، إنما كان رجلا آخر يعنعن ويلوى لسانه وينطق بكلام قديم، فلم يفهم منه شيئا.

أغلق المذياع، ومشى إلى الحصير الذى يتوسّط الباحة الخارجية، ودخل فى صلاة، لا يعرف عدد ركعاتها، ولا ماذا يقول فيها؟

ركع وسجد، كما كان يرى غيره، حركات جسدية طالما شاهدها وهو يمرّ على الجسر بين الحقول لفلاحين آخرين، اعتادوا الذهاب إلى المساجد، لكنه لم يتوقف يوما ليسألهم عما تقوله شفاههم التى تمتم فى هدوء.

فى اليوم التالى ذهب إلى المسجد، ومع الأيام تعلّم كيف يُصلّى. وحين سألته زوجته:

- لماذا لم تذهب منذ البداية مع الشيخ «إسماعيل» ومع الشيوخ الغرباء الذين دعوك إلى الصلاة؟

ضحك وأجاب:

- لا أحبّ أن يكون بينى وبين الله أحد.

بعد أسابيع قليلة مات وهو واقف على فأسه والماء يجرى تحت قدميه، وظلت زوجته تملأ الزير ليشرب العابرون حتى لحقت به. وترحمت أنا ورفاقى الصغار عليهما طويلا، فقد كنّا نهرع إلى هذا الزير ونحن قادمون نلهث على الجسر، بعد أن تركنا مبنى المدرسة يتضاءل وراءنا، ويغيب رويدا رويدا بين شواشى الزرع وجذوع الشجر والنخيل، نقف أمامه طابورا من العطشى، يناول أوّلنا الكوب لمن يليه بعد أن يملأ بطنه، وهكذا حتى يذهب الظمأ عنا جميعا.

ها أنت ترى الزير، يا ولدى، وقد باض فيه اليمام، وكسته أتربة الجسر، وفى الأيام الهوجاء تصفر فيه الريح وتهزّه، بينما ينخر السوس قوائمه الخشبية، وينهش الصدأ طوق الحديد الذى يحضن جسده الفخارى الضخم، والصدأ يأكلها، بينما تمرّ أفواج من الناس عطشى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عادل خياري
 
 
عادل خياري

عدد المساهمات : 4004
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: رد: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1الثلاثاء 25 فبراير 2014 - 12:58

ودالماحي
تشكر على امتاعنا بهذا الأسلوب الراقي والكتابة الشيقة
وددت ان لا تتداخل حتى لا افسد روعة التسلسل
الا اثبات الحق بالإعجاب وأننا متابعون حال. دون ذلك
اوعدك اول وآخر مداخلة لا أكررها ثانية الا بعد النهاية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صديق الماحي
 
 
صديق الماحي

عدد المساهمات : 3466
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: رد: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1الثلاثاء 25 فبراير 2014 - 13:05

وجودك يا ابو الطيب هو زادنا لمواصلة ما تقراه وقلنا طالما عجبنا فننشره للاحباب والاهل والصحاب ورواية السلفى قد تغيير مفاهيم كثبرة لدى شباب مخدوعين بفكرة الجهاد وانا من انصار الجهاد في نفسى اولا ثم في الهدى وبعد كدة لو في طريقة وما متنا نشوف كفار افغانستان ههههههههه
لا يا ابو الطيب انا سعيد بمداخلتك ودائما سعيد بك ي راقى والهدف ايضا النقاش والحوار
لا عدمناك

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صديق الماحي
 
 
صديق الماحي

عدد المساهمات : 3466
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: رد: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1السبت 1 مارس 2014 - 12:49

الرابعة
العتبة الثالثة

لنترك هذا الزير للزمن، لعل أحدا يتذكره ويملأه من جديد، ولنمشى قليلًا، كى نجد هنا على اليسار بعض أيام أخرى لرجل آخر، كان يقطن مكان هذا البيت الذى تقف حوائطه محتضنة أحجارًا بيضاء متساوية. بيته هو كان مختلفًا، حوائطه من الطوف، الذى تتراص فيه «جواليس» الطين المعجون بعناية ودأب، بعد أن يلف فى التبن، ويهندس ليأخد شكلًا مستطيلًا أو مربعًا، سيان، فهو فى النهاية سيدغم فى أمثاله بينما يرتفع البنيان البسيط، بقدر ما يستر من بداخله، وتمتد أفلاق النخل بعد أن تبيت أطرافها فى الحوائط، ويفرش الجريد، ومن فوقه قطع النايلون بعد أن يفتحوا أكياس السماد الفارغة، وفوقها طبلية طين بوسع السطح كله.

تحت هذه التعريشة كان يعيش رجل غريب آخر، وكأن الغرباء يحسنون اختيار أماكن سكناهم على أطراف البلاد، ليروا دوما الخلاء الذى جاؤوا منه.

الرجل كان يعمل خفيرًا لزراعات أحد أثرياء قرية مجاورة، وكان يأتى كل ليلة إلى قريتنا القريبة من تلك الزراعات ليسهر، ويشترى ما يحتاجه من شاى ودخان. كان اسمه «أبو عطا الله»، أسمر، ممشوق القوام، عيونه محفورة فى رأسه ونظرته ثابتة كصقر، وأنفه مفرطح كأنه يريد أن يشفط كل الهواء السارى بين أعواد القصب التى يحرسها وينام فيها. يمشى فى خيلاء، ويضرب الأرض بعكازه ذى الدائرة الحديدية المسنونة.

هنا على بُعد خطوات من المكان الذى نقف فيه الآن يا ولدى رأى «مفيدة»، الأرملة متواضعة الجمال، لكنها كانت صاحبة بيت الطمى الذى كان مقاما قبل أن يطبق هذا الحجر على أنفاسه حتى يفنيه، قال فى نفسه: مبيت دافئ بين جدران بدلا من الطل والخلاء البارد، وامرأة تعد لى الطعام والشاى وتطفئ شهوتى إن حضرت، وتزوجها، وصار واحدا من أهل بلدنا.

كان فى نظر الناس نصفين لا يلتقيان أبدا، لكنه جمع بينهما. الحارس واللص. وقف فوق المساحات الفاصلة بين السبيلين دون أن ترتعش قدماه، ولم يلتفت أبدا إلى أحد. الذين عرفوه عن كثب، وأتيح لهم أن ينصتوا إلى كلماته القليلة التى تخرج حادة من بين أسنانه المثرمة، تحدثوا عن شهامته وكرمه. وحين رفض الناس دفاعهم عن لص، ردوا عليهم بكل وضوح:

ــ يواجههم وحيدًا فى سواد الليل، ولا بد أن يصادق حارس الزراعات لصوص المواشى وإلا أشعلوا النار فى ما يحرسه.

وحين يرد الناس:

ـ كان يمكن أن يتجنبهم ولا يجلس معهم.

يضحك المدافعون عنه قائلين:

ـــ يمرون به فى ذهابهم ورواحهم، ويطلبون منه أحيانًا شايًا ودخانًا.

لم يستطع أحد أن يحل هذا اللغز، أو يبدد أيا من هذين النصفين، أو يجمعهما فى كيان واحد. ومع الأيام لم يعد أحد مهتما بالإجابة عن أى أسئلة تطل برأسها من قلب هذه الحيرة. لكن الجميع كانوا متفقين على أنه رجل قاسى القلب، وكانوا يسألون أنفسهم أبدًا:

ـ كيف تتحمله مفيدة؟

كانت هى سيدة ضامرة الوجه، تمشى فى تؤدة خافضة الرأس، توزع ابتساماتها على كل من يراها. تستيقظ مبكرا، تحلب الجاموسة العجفاء، وتجمع روثها لتصنع أقراص «الجلة» التى تحمى بها الفرن كل شهر، وتخبز «البتّاو»، ثم توزع نصفه على جيرانها.

فلم تكن الشيخة «زينب» هى المرأة الوحيدة الصالحة فى بلدنا يا ولدى، فطينُ هذه الأرض الطيبة لا يكف عن إنبات الصالحات، نساء لهن نفس طزاجته، ورائحته التى تضج بالحياة، وطراوته التى كثيرا ما لثمت ذيول جلابيبنا الطويلة، ونحن نمرح على ضفاف الترع والقنوات والماء يجرى فى عيوننا صافيا.

أمام دار «مفيدة» كان المغادرون إلى البندر ينتظرون حافلة حكومية متهالكة المقاعد، وشمس الضحى تحط على رؤوسهم، وعند تأخرها تلسعها فيتململون، ويلوذون بالجدران لكن حين ترتفع الشمس إلى كبد السماء تزيح الجُدر وتضرب كل أجسادهم المكدودة بلا رحمة.

ورأتهم هى كثيرا، فعادت ذات يوم من الحقل تحمل شجرتين صغيرتين من الصفصاف فى قفة كبيرة، وكل منها تقف ثابتة بين قمع من الطين المتماسك. وضعتهما أمام الدار، وجاءت بالفأس، وحفرت حفرتين وغرستهما وروتهما بماء غزير، ولم تمض سوى سنة واحدة حتى كانت ظلالهما تغمران الرؤوس.

ولاحظت هى أن الناس يتعبون من انتظار الحافلة واقفين، فحملت عدة مقاطف من تراب الزرع، وعجنتها، ثم أحضرت القالب الخشب، وشكلتها قوالب معتدلة القوام، ثم حملتها إلى تحت الشجرتين، وراحت تبنى بيديها مصطبة طويلة، ليجلس عليها الناس.

كان «أبو عطا الله» يسخر منها ويفزع فيها بقسوة:

ـ لسنا خدمًا لأحد.

تبتسم وتقول له فى هدوء:

ـ كله بثوابه.

غاب هو عن قريتنا شهرا كاملا، وعرف الناس أنه مريض فلم يعُده أحد، وارتاح الجالسون على المصطبة الطويلة تحت الظل الوارف من نظراته الكريهة.

ومات فجأة، فلم يبكِه أحد، حتى زوجته الأولى، أم أولاده، التى تنفست الصعداء مع آخر حفنة تراب أهيلت على قبره، ولولا العيب لرقصت. أما مفيدة فامتلأت عيناها بدموع ساخنة، وقالت لمن تعجبوا:

ـ العِشرة لا تهون إلا على أولاد الحرام.

وحين قالت لها جارتها:

ـ كان يعاملك كعبدة.

صمتت برهة وردت عليها:

ـ كان الله يجازينى ثواب الصبر عليه، وبموته راح الثواب.

لكن رُزقت ما يحتاج إلى صبرها أكثر من صلافة الزوج الراحل وقسوته، إنه المرض الخبيث الذى هجم على صدرها فجأة، وراح يمد أشواكه المسمومة، وكرات اللهب الدقيقة إلى هالات الإسفنج الهشة. وسألها الطبيب:

ـ هل تدخنين؟

فابتسمت وقالت:

ـ لا يا بيه، عيب عندنا الست تدخن.

لكنها عرفت منه أن سجائر «أبو عطا الله» ودخان «الجوزة» التى تركها لها فى ركن الحجرة الداخلية، ملأت رئتيها بالدخان القاتم.

حجزوها فى المستشفى أسبوعًا واحدًا، وكانت مسألة وقت، فأخرجوها ذات ليلة وقالوا لها:

ـ ارتاحى فى بيتك.

لم يأتِ الخلاص يا ولدى سريعا، فهاجمها العذاب شهورا. يحل بغتة، فتسعل وتلهث حتى تكاد ضلوعها أن تتمزق، ثم

تنبلج عينيها، وتنظر إلى من حولها، وتبتسم وتتمتم:

ـ الحمد لله.

ولمَّا يسألها الناس عن حالها، ترد فى امتنان:

ـ راضية وربنا كبير.

وحين يزول عنها الألم قليلًا، تقوم من مكانها، وتأخذ حلة كبيرة، تملأها من الترعة، وتسقى الشجرتين، وترش المصطبة حتى يهرب الصهد. وكانت إن غرفت فى حلتها أى من صغار الضفادع، تمد يدها وتهشها بعيدًا، حتى تبقى حية.

وكنا بعد أن نرتوى من زير «سليم السويركى» نقف قليلًا تحت الشجرة، لتجفيف عرق الطريق المترب الساخن، وجوهنا إلى الترعة التى تفيض فى هدوء، وظهورنا إلى باب بيت «مفيدة» الموارب. كانت أحيانًا تمد عنقها، وتقول:

ـ تفضلوا يا أولاد.

وكان بعضنا لا يرد عليها، وبعضنا يلتفت إليها مبتسمًا، لكن أيًّا منا لم يستجب أبدا لدعوتها، لا سيما بعد أن حل فى دارها صاحب الصوت الأجش، والطبع الخشن.

أما حين أنهكها المرض زارها بعضنا، مع كل أهل القرية الذين لم ينقطعوا عن زيارتها، ورفعوا أكفهم إلى السماء يدعون لها. وحين ماتت صلوا عليها فى المسجد، وخرجوا جميعا وراءها ودموعهم تتساقط على أقدامهم التى تمشى الهوينا خلف النعش. مثلها يا ولدى يعتبرها أمثالك أنها ممن يعيشون فى جاهلية، ويزعمون أنهم سيدخلونها فى دين الله، وأظن أن الدين هو ما كانت عليه، وليس ما أنت عليه، وها أنت ترى المصطبة والشجرتين، اللتين كلما استظل بهما أحد ترحم عليها، وأتى على ذكر شىء حميد من سيرتها الطيبة التى لا تموت فى قريتنا أبدًا.

العتبة الرابعة

فتحت عينى على الدنيا، يا ولدى، لأجد بقايا قطيع من الأغنام فى دار جدك. كان الناس يصفون قطيعنا قائلين: كان أوله فى بيتكم وآخره عند مدخل القرية. ومع هذه البقايا صرت راعيًّا صغيرا. كنت أخرج فى الصباح بنعجات قليلات وخروفين، لألتحق بقطيع كبير يضم كل أغنام القرية، ويقوده عم «يوسف أبو إسطاسى»، الراعى العجوز الممشوق الصموت، الذى لا يكف عن الشرود والتأمل، ويوزع ابتساماته علينا بالتساوى.

وزهوت بنفسى حين عرفت فى أول المدرسة أن كثيرًا من رسل الله كانوا رعاة أغنام، فكنت أمعن النظر فى النعاج السارحة وراء العشب، وأتقافز من الفرح، وأنا أهشها يمينا ويسارا، فتميل مع العصا أينما ذهبت.

اختار العم يوسف خروفًا ضخمًا وأعطاه القيادة. كان ذا قرنين منتفخين يرتفعان على رأسه كتاج، ثم ينيخان على عنقه إلى الخلف كحربتين ذاهبتين إلى غمدهما. وما إن يخرج القطيع من فوهة القرية بعد أن تتجمع أشتاته من مختلف البيوت، حتى يقدم هذا الخروف ماضيا خلف العم يوسف، وهو يمشى على مهل، وقد وضع عصاه على كتفيه، فيتبعه القطيع فى عمى، لا يحيد عن الطريق.

أما أنا وبعض رفاقى الصغار فكنا نمشى فى الخلف، وتضيع أجسامنا فى عجيج هائل، وآذاننا تتابع همهمات الغنم الذاهبة إلى حيث يكون الكلأ، وهى تتزاحم وتتهارش فيدخل الصوف فى الصوف، ويبدو القطيع وهو يتقدم إلى الإمام على مهل وكأنه قد صار كتلة لحم ضخمة رجراجة.

كنا أحيانا نغمض أعيننا ونمشى، والعصى التى فى أيدينا، ممدودة إلى الأمام ومستقرة على ظهور النعاج، أو مغروسة فى تلافيف الفراء، وخطواتنا مضبوطة على سير القطيع، حتى نبلغ المراعى فيسرع الخروف القائد نحوها، وتجرى النعاج وبقية الخراف خلفه، فتترك الأرض وراءها سوداء لا شىء فيها، كلحيتك هذه، يا ولدى، الخالية فى نظرى من أى معنى، وكرأسك الذى تتزاحم فيها المعانى، وقتل بعضها بعضا، فصارت خواء، تزعق فيها الريح.

المهم أننى أحببت الغنم لكننى كرهت أن أكون مثلها، وزادت هذه الكراهية يوم أن هجم الذئب على أطراف القطيع والعم «يوسف» نائم، ونحن لاهون نلعب «السيجة». أمسك حملا صغيرا بفكيه الحادين، وراح ينهشه، على مسافة من الخروف القائد وبقية الخراف والنعاج. وقف كل القطيع عاجزًا يرتعد، ولو أن الكباش هجمت عليه بقرونها الطويلة المسنونة، فربما أنزلوا الرعب فى صدره، وفر هاربا لا يلوى على شىء. صرخنا واستيقظ العم وجاءت الكلاب متأخرة، فضاع الحمل، وعاد القطيع إلى مكانه بعد أن طردنا الذئب، يجتر ما تبقى فى أجوافه، وكأن شيئا لم يحدث.

وكان معنا طفل اسمه «أسعد»، استغنى عن رأسه، يفعل ما يُطلب منه دون أن يتوقف برهة ليسأل عن شىء. أرسله ذات مرة العم يوسف ليشترى شايا وسكرا، وجلس ينتظره على أحر من الجمر الذى أوقده أمامه، ودفن داخله برادًا يغلى بماء أبيض. وعاد بعد ساعة ومعه قرطاس كبير مملوء بالسكر، لكن ليس معه الشاى، وحين سألناه، قال: أنتم قلتم هات شاى «الشيخ الشريب» -كان نوعا شهيرا فى هذه الأيام- فلم أجده فى أى دكان، ووجدت أصنافا أخرى، لكنى لا أحتاجها فلم أطلب منها شيئًا.

وهكذا كان يسير على المنوال ذاته فى أى مهمة يُكلف بها، لا يعمل إلا بما سمعه ويطيع ما يقال له دون أدنى تفكير. وضاق به العم يوسف فكان يناديه دوما: يا خروف. ثم وجد له عملا يليق به. ناداه ذات صباح فذهب إليه مسرعا، وقف أمامه، ورفع عينيه، وهز رأسه منتظرا ما سيؤمر به، فقال له:

ـ هل ترى الخروف القائد؟

ـ أراه.

ـ مهمتك من اليوم أن تمشى إلى جانبه، والغنم وراؤكما.

ـ لمَ؟

ـ يلزمنا خروفين من قدام.

وتذمرنا نحن الأولاد على ما لحق بصاحبنا، وهممنا أن نعترض، لكننا وجدناه يرقص فرحا على مهمته الجديدة، ويجرى مسرعا حتى وصل إلى الأمام، ثم أناخ بجسده قليلا وهو يمشى، حتى أصبح ظهره فى مستوى ظهر الخروف، ثم مأمأ، وانطلق فى ضحك هيستيرى، بعد أن ألقى العصا على جانب الطريق.

وبعد يومين رق قلب العم يوسف له، فناداه، وطبع قبلة على جبينه، وخصه بقطعة من الحلوى دسها فى يده، وقال له:

ـ عُد لتمشى مع أصحابك، أنا كنت أهزر معك.

ففوجئ به، ينزع الحلوى من بين لسانه وفكيه، ويصرخ وتنهمر دموعه غزيرة ساخنة، ويضرب قدميه فى الأرض، ويقول:

ـ لا.. لا.

فربت الرجل كتفه، وهز رأسه، ونظر إليه مليا فى شفقة، مستعيدا كل ما سمعه عن حكايات القهر التى يكابدها مع أبيه صاحب الصوت الأجش والكرش الكبير، وقال له:

ـ خلاص يا أسعد، زى ما تحب.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صديق الماحي
 
 
صديق الماحي

عدد المساهمات : 3466
تاريخ التسجيل : 25/04/2010

السلفى رواية Empty
مُساهمةموضوع: رد: السلفى رواية   السلفى رواية Icon_minitime1السبت 15 مارس 2014 - 14:26




رواية السلفي «5» عمار علي حسن


نشر: 21/2/2014 2:35 ص – تحديث 21/2/2014 2:35 ص

يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.

ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».

...

وفى يوم مرض العم يوسف، وخرجنا بالقطيع نحو الخلاء. كان أسعد إلى جانب الكبش الكبير فى المقدمة، ونحن فى الخلف نهشّ على الشاردة والتائهة والكسولة، وكنا نسير فوق جسر عال، وننظر إلى البركة الآسنة الممتدة تحت أعيننا والبوص الواقف على جنباتها يدارى دجاج الماء والشرشير. وفجأة جفل الخروف القائد حين وقعت عيناه على سرب من الشرشير متكوّم بعضه فوق بعض، فظنه ذئبا رابضا، ووجدناه من الهلع يرمى بجسده من فوق المنحدر، باتجاه السرب، وفى اللحظة نفسها كان أسعد يسابقه نحو الهاوية، ومن ورائه كل القطيع.

وعدنا، يا ولدى، فى المساء لنجد العم «يوسف» ينتظرنا على باب القرية، متوكئا على عصاه، وفى عينيه ألم. كان يسعل بشدة، يهتز لها جسده كله، ثم يتكلم بكلمات تخرج كصفير حاد، ونحن ننصت إليه.

قال لنا يومنا إن الراعى الصالح لا يهمل غنمه. وأخذ أسعد من يده وداس عليها وقال له:

- سأحكى لك حكاية الخروف الضال.

وأنصتنا إليه بكل كياننا، فلما انتهى سألته أنا:

ـ أين تعلمت هذا يا عم «يوسف»؟

ابتسم، وسعل من جديد، وقال:

ـ حكاها لنا القس بكنيسة العذراء فى الزمان الأول.

لكننا لم نر العم «يوسف» يذهب إلى الكنيسة أبدا. وإن كنا رأينا الكنيسة معه طيلة الوقت. يتوه قليلا وهو يدس براد الشاى فى الجمر الصافى، ثم يقول لنا:

ـ من يكذب منكم أو يسرق أو يقتل أو يسب صاحبه أو يهمل غنمه ستكويه هذه النار يوم الدينونة.

ثم تتساقط قطرات من عينيه، يمد طرف كوفيته العريضة ويمسحها، ويقول:

ـ الله يحبنا، ولا يريد أن يعذبنا، لكننا نحن الذين نعذب أنفسنا.

ويمد عينيه ليتابع القطيع وهو لاهٍ فى المرعى، ويصب الشاى الأسود فى كوب صغير من «الصاج» ويشفط رشفة عميقة ويتابع:

ـ لا تضربوا الغنم بقسوة، هشوا عليها من بعيد، ولا تجعلوا أحدًا فى هذه الحياة يتألم بعملكم حتى لو كان كبشًا نطيحًا.

كان يختار أرضًا بورًا للنار التى يوقدها، لم نره يوما يضع الحطب فوق بقعة خضراء، حتى لو كانت من الحشائش الضارة، أو هكذا نسميها نحن، لأنها تنهب غذاء الزرع الذى نزرعه فتتركه هشًّا مصفرًّا. يرمى بصره حول القطيع النائم أو الهائم حتى يجد بقعة قاحلة، فيمشى إليها، ملفوفا فى ذهب شمس العصارى الحزينة، وينظر إلى من كان عليه الدور فى جمع الحطب، فيرمى بحمولته الضئيلة، ويجلس العم يوسف إلى جانبها، ويدس بين السيقان الدقيقة الجافة بعض القش، ويمد يده إلى جيبه، ويخرج علبة الثقاب، يلتقط أحدها ويشعله، ويمده إلى قلب الراكية، وهو يتمتم «يا ربنا حرِّم أجسامنا عليها». وحين نسأله:

ـ لمن تدعو ربك يا عمنا؟

يبتسم ويقول:

ـ لنا جميعا.

وذات مرة ضجر ولد منا من المشى وراء العم يوسف وهو يبحث عن بقعة قاحلة، وقال:

ـ لازم وجع القلب، النار توقد فى أى مكان.

وتوقف العم عندما سمع كلامه، والتفت إليه، وكنا جميعا نمشى خلفهما، واعتقدنا أنه سيصفعه على وجهه، لكنه وضع يده على كتفه، وقال له:

ــ لا يجب أن تؤذى روحًا حتى لو كانت نبتة لقيطة حمل الريح بذرتها.

مثل هذا الرجل الطيب تراه أنت يا ولدى كافرًا، وتقول بملء فيك: «سيدخل النار حتمًا»، وكأن الأمر قد صار بيدك. وحين كنت أجادلك فى هذا وأشكو، كنت تأتينى بآيات قرأتها، أو قرأها أحد لك، على عجل، وتقول فى غضب:

ـ إنما هو حكم الله.

وتتذكر أننى كنت أسألك:

ـ من أين عرفت؟

ـ آيات القرآن.

ولما أقول لك:

ـ لا تقرأ الآيات بظاهرها، وهناك آيات أخرى تبين نقيض حكمك القاسى.

تهز رأسك وتبتسم، وكأنك تسخر من أبيك، وترد فى ثقة غريبة:

ـ هذه آيات منسوخة.

ولما أرفض ما تقول، تبتعد عنى، معتقدًا فى جهلى وربما فُسوقى أو حتى كُفرى، وتقول:

ـ هذا كلام الشيخ، وهو يعرف أكثر.

تمشى وراء شيخك أعمى، كالخروف الضال. تمشى كما كان يمشى أسعد فى الزمان الأول. شيخك يردد كالببغاء كلامًا مسجوعًا وراء شيوخ قدامى، عاشوا فى القرون الغابرة، جاوبوا عن أسئلة زمانهم ثم تدثروا بالحصى، وصمتوا إلى الأبد، لكن ما قالوه عن أيامهم صار معصومًا فى أيامنا. اشتغل الوراقون والخطاطون، وامتلأت الأرفف بالكلام، وصارت إجاباتهم القديمة ترد عن أسئلتنا الجديدة. إنها المأساة ذاتها التى كلمنا العم يوسف عنها يومًا، كان تائها وعيناه تحطان هناك عند شط النهر المسافر إلى البحر البعيد، ويقول:

ــ راعى الكنيسة يقول لنا كلاما غريبا، ويطلب منا أن نردد وراءه، أنا أغلق فمى ولا أنطق إلا بكلمة واحدة أعرف معناها هى: آمين.

كان وقتها يعلق على زميل لنا التحق بالقطيع مع خمس نعجات وخروف ولسان لا يقدر على نطق نصف الحروف تقريبا.

ضحك أسعد عليه وكذلك فعلت أنا، لكن العم يوسف نهرنا، وقال:

ـ على الأقل صاحبكم يقول كلاما نفهم بعضه، ونعرف أن كله ينشغل بأيامنا وأحوالنا، أما القساوسة فيرطنون باليونانية أو القبطية القديمة، لنظل نحن مسحورين بالأصوات التى تخرج من أفواههم، ونرفعهم فوقنا.

لا أنسى هذا الموقف فى حياتى، ظل محفورًا فى رأسى، أستعيده كلما سمعت أحدهم يبرطم بكلام قديم. أضحك وأقول: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر»، الله يسر قرآنه، وجاؤوا هم لينسجوا حول متنه العامر بالجلال والمعانى السامية تخاريج وتعاويذ وتحريفات وتأويلات وأوهامًا، يشدونها نحو مصالحهم، ويقولون للناس: هذا شرع الله، وأنت تردد وراءهم يا ولدى: هذا شرع الله. ويوم غضبت منك وقلت لك:

أقلّه لله وأكثره لكم، وتنسبونه له سبحانه ليكون لكم فى نفوس عباده ما له.

يومها امتقع وجهك، وطفح دم فى عينيك، ووقف شعر لحييك كأنه حراب مسنونة، ثم رفعت يدك حتى حسبت أنك ستصفعنى، لكنك أشحت بها فى وجهى، ثم قطعت خطوات سريعة نحو باب الغرفة، وقبل أن تغادرها، استدرت نحوى بكل جسمك، وقلت:

- خليك مع «يوسف أبو أسطاسى» وستحشران سويًّا.

يومها لم أكن أحسب أن ما قلته لك ذات عصر، فى لحظة صفاء، عن شذرات عابرة من طفولتى وصبح أفراحى، قد استقر فى رأسك. فقد قصصت عليك مواقف أخرى عديدة، ووجدتك قد نسيت كل شىء، حكاياتى ذهبت سدى، أو طمست تحت سطوة الحكايات الجديدة التى صبها فى رأسك الببغاوات ذو اللحى الكثة.

ما قد يفرحك هو ما جرى لأسعد، وخبأته عنك. سار ببطء فى مشوار تعليمه حتى حصل على دبلوم فنى صناعى، كان المدرسون يقولون له دومًا:

ـ أنت حافظ ولست فاهمًا.

وكنت أجلس فى الصف الذى يسبقه، وأستعيد أوقات سيره إلى جانب الخروف الكبير، وأدرك لماذا يقول له المدرسون هذا؟ المشكلة أن ذاكرته لم تكن قوية بالقدر الذى يجعل المعلومات تبات فيها أكثر من ثلاث ليال، ولذا لم يشفع له حفظه فى أن يتقدم فى التعليم خطوات أبعد مما وصل إليها.

بعد تخرجه ظل سنوات يرعى الغنم ويضرب حقل أبيه بفأسه إلى أن توسط قريب له فى البندر ووظفه فى هيئة الكهرباء بمدينة المنيا. وزامله شاب كان ينتمى إلى «الجماعة الإسلامية» وجذبه إليه، فأطلق لحيته، وازدادت ملامحه تجهمًا. كان يعود من عمله بعد العصر، ويمر بدار العم «يوسف» فلا يلتفت إليه. حتى حين كان الرجل يجلس أمام الدار تاركًا ساقيه للشمس وموزعًا امتنانه على المارين من أمامه، لم يكن أسعد يعيره اهتمامًا.

وفى يوم ناداه العم يوسف بصوت مجروح:

ـ يا أستاذ «أسعد».

لكنه مضى فى طريقه غير عابئ بالنداء، ولاحظه رجل كان يمضى فى الاتجاه المضاد، فقال له:

ـ رُدَّ على رجل فى سن جدك.

فأشاح «أسعد» بيده، وانتفخت عروقه بغضب عارم، وأدار جسده نحو العم يوسف، وقطع نحوه عشر خطوات كاملة، ثم صرخ فيه:

ـ أنا لا أتكلم مع نصرانى كافر.

وفى بعض الليالى كان يتسلل متدثرًا بظلمة الشوارع الضيقة حتى يصل إلى «الصهريج» الصغير، ويرمى بابه بأحجار جمعها فى طريقه، وهو يقول فى نفسه:

ـ لن أرتاح حتى ترحل هذه الفاجرة التى يسمونها الشيخة «زينب» من بلدنا.

كان «أسعد» مثلك يا ولدى، استبدل بقطيع الغنم آخر من البشر، انساق معه، لم يتوقف ولم يتبين ولم يتريث ليفهم ما يقال له، بل سحره الكلام الغامض الآتى من قعر الزمن البعيد، وظن أن ما يقوله أمير الجماعة هو حق اليقين وعينه، وأن به مفتاح الفردوس الأعلى.

لم تنقر كلمات العم «يوسف» القديمة شيئًا فى رأسه، مثلما فعلت مع أبيك، وهام خلف من أشعلوا فى شوارعنا النار وسفحوا فيها دمًا غزيرًا.

ولا تحاججنى، يا ولدى، وتقول متباهيًا إن كلام أمير الجماعة تدفق فى أوصال «أسعد»، وأزال عنه صمته وعجزه، فالحقيقة أن «أسعد» هذا أعمى فى الحالين، فى الأولى كان أعمى فى صمت، وفى الثانية هو أعمى أيضا وإن كان يثرثر ويجادل ويطلق الضجيج يلوث به أسماع الناس.

هل تعلم، يا ولدى، أن ابن حفيد العم «يوسف» واسمه «ناشد» قتله أمثال «أسعد»، وهم أمثالك أيضًا، بين «طرابلس»

و«بنغازى» فى الهوجة العارمة، لأنهم عرفوا أنه مسيحى. لم يسألوه حين أوقفوا الحافلة التى كان جالسًا على أحد مقاعدها ذاهبًا إلى رزقه، بل رأوا الصليب الأزرق مطبوعًا على بطن معصمه، فأطلقوا النار عليه دون أن يعطوه فرصة، لينطق حرفًا واحدًا، أو يذرف دمعة واحدة، أو يرى الطريق الذى يشير إلى الشرق، حيث يمكن أن يعود إلى هنا.

من قتله، ربما أكلت معه وشربت، أو شاركتما سويا فى قتال من أجل اقتناص بئر نفط يمور فى صمت على شاطئ البحر الوسيع. وربما رأيت أنت بقعة دم «ناشد» على جلباب صاحبك الأبيض حين عاد من رحلة القتل، وربما تكون أنت من قتله.

كان «ناشد» يشبه جده «يوسف» تمامًا، قطعة منه كان، وكان بوسعى أن أريك الجد فى الحفيد، لو تركتموه يعود سالمًا سليمًا، وليس ست قطع تتأرجح فى صندوق قديم. فبعد أن سكن الرصاص جسده، مزقوه بالسيوف والسواطير، وتركوا الرمل يزحف إلى لحمه فى بطء.

وما لا تدريه أنت، يا ولدى، أن العم يوسف ترك لحيته فى آخر أيامه. كانت شهباء خفيفة كأنها خيوط من القطن بعثرها الريح، ولما خانته ساقاه راح يتوكأ على عصاه، فبدا وهو يمشى على الجسر راهبًا من زمن بعيد، وكان هو فى الحقيقة راعيًا من زمن أبعد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

السلفى رواية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 

 مواضيع مماثلة

-
» رواية ..لرؤية ...اقرب للخيال ...
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ابناء منطقة الهدى :: المنتديات العامة :: المنتدى العام-
انتقل الى: