تحركنا من جبال الالب ، ونحن نكن لجمال الطبيعة حبا دفين ، لما يفعله من تفريج وسحر ،بعدها دخلنا على الحدود الايطالية، إيطاليا من الناحية التبوغرافية ، تكثر فيها السهول المستوية وتندرالجبال ، بينما سويسرا تغطيها الجبال والمرتفعات،مررنا فى طريقنا الى فينيسيا ببعض المدن الايطالية مثل فيرونا ،بريشيا وفيزنسيا ،وهى مدن على جانبى الطريق ،تحفها المزارع ،كان التيم الايطالى معنا متدفق الحيوية ،كثير الدعابة والمرح ،قالوا لنا هذه المزارع كلها لانتاج الفواكه التى تصنع منها الكحول ،وذكروا انها مهمة لهم فى تجديد الحيوية ،ومعتادة منذ الصغر،وبالفعل فهى بالنسبة لهم جزء من المشروبات اليومية فى ثلاجتهم،ولذلك ظلوا لايذكرون إلا ما سجلته لهم الكامرات او المذكرات،أما بالنسبة لنا فهى تفسد الدين والحياة،ولكن تختلف الشعوب ،ويجب علينا وضع هذا الاختلاف فى الاعتبار ،بحيث لايؤثر ذلك فى الود بين الناس على اختلافهم مشاربهم،إنك لاتهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء0
وصلنا الى فينيسيا ،وهى جزيرة فى البحر الادرياتيكى،تسمى بالمدينة العائمة حيث تنعدم تماما السيارات،القطارات ،المواتر والسياكل ،وتكون الحركة فقط اما مشيا على الاقدام او بالقوارب، منذ وصولنا وضعت السيارة فى المواقف وركبنا فى بص نهرى لياخذنا لداخل المدينة،شىء عجيب كل الشوارع داخل هذه المدينة الساحرة ،عبارة عن قنوات مائية،ترسو على جانبيها المراكب والقوارب بمختلف الانواع والاشكال والالوان ،عليها رسوم بأشكال غريبة لا تخطر على بال العقل الشرقى،بصات نهرية بمختلف التصاميم،تاكسى ،اسعاف ،مراكب شراعية ،مراكب بمقداف يدوى،قوارب بماكينة 0
تجولنا فى المدينة ،بقارب أحد الاصدقاء الايطاليين، لاحظنا الشوارع المائية مقسمة الى شوراع رئيسية للمرور السريع ، وشوارع فرعية ،وزقاقات ،كلها قنوات مائية ،توجد جسور عبور للمشاة ، معمولة بتصاميم جاذبة واحجام مختلفة ، كما توجد علامات مرورية على سطح الماء ،تشاهدها من على البعد ،هذا المشهد العام ،يجعل الانسان يتأمل ويفكر فى حياة هؤلاء الناس فى مدينة كهذه ،لاحظت انهم يغلب عليهم الهدوء وعدم العجلة فى الحركة ،والمعاملات ،ويرجع ذلك لان حركة الناقلات البحرية دائما بطيئة ، والحركة مقيدة ،وانعكس ذلك بمرور الزمن على مزاجهم العام فصاروا،ملتزمون بالنظام والحركة الانسيابية ،و يتناولون كل الامور بهدوء وتؤدة ، وليتنا اخذنا شيئا من هذا الهدوء ، وتنازلت عصبيتنا قليلا ،ولكن كيف ذلك وشاعرنا صلاح احمد ابراهيم ،قد لخصنا بابيات،تعرب عن ما نظن انه هويتنا،،،،كما يقال هذه الايام ، بقوله :-

انا من افريقيا ،صحرائها الكبرى وخط الاستواء
شحنتنى بالحرارات،،،،،،،،،،،،،،،،، الشموس
وشوتنى كالقرابين على،،،،،،،،، نار المجوس
لفحتنى فأنا منها،،،،،،،،،،،،،، كعود الابنوس

المدينة قديمة ،وكلاسيكية المبانى ،تنتشر بينها رائحة الطحالب والفطريات المائية هنا وهناك،يقولون انها يتم تنظيفها دوريا،بقفل كل شارع على حده وشفط الماء منه وتنظيفه ،ثم يفتح الماء من جديد،سبحان الله عملية معقدة ومكلفة، ولكنهم يقومون بها ،لاهمية الانسان وصحته عندهم ،كغاية قصوى،ولاهمية الاصحاح البيئى،هكذا يقاس وعى الامم وتحضرها،أما نحن فعاجزون حتى عن نظافة سطوح شوارعنا،وهنا مكمن ضعفنا0
تشتهر فينيسيا بصناعة الزجاج بكل فنونه وفلكلوره ،تجد فيها الاثاث الزجاجى(ترابيز،ابواب ،نوافذ وغيرها) ،ادوات المطبخ ،ادوات الزينة (نجف ،تحف ،مزهريات ) ،تجدها بمختلف الاشكال والنقوش ،كما توجد لديهم عملية تطريز الزجاج ،وهى عملية تصنيع القطعة الزجاجية الواحدة بانواع ،والوان متعددة من الزجاج (مثلا كأس زجاجى تجد القاعدة ،العنق ،وجسم الكأس ،كل بزجاج مختلف عن الاخر،تتخلله الالوان موحية بلوحة فنان يريد ان يقول شيئا)0
هناك تماثيل ومجسمات زجاجية ،ولوحات فنية مدهشة ،قمة فى الروعة ،استخدمت فيها كل اشكال النقوش المربوطة بالحضارة الرومانية القديمة،وهى غالية الثمن (مثال قطعة زجاجية لمزهرية متوسطة الحجم تجدها بسعر 3000 يورو يعادل تقريبا 16800 ريال سعودى يعادل حوالى 12264 جنيه سودانى بالجديد ،فقط لانها تحفة فنية من زجاج مطروز ، يسعى كل السياح الاوربيون لاغتنائها ، اما نحن فقط نزداد علما ومعرفة ، وليس لنا فرصة فى الاغتناء ،لاننا اغنياء نفوس فقط ، ولا عليكم من قول الحسن ابن هانى الذى يتيه بفقره على الناس قائلا:-

وقد زادنى تيها على الناس أننى *** أرانى أغناهم ,وإن كنت ذا فقر

طبعا التجوال داخل مدينة فينيسيا بالقارب ،وتلتقيك اثناء الحركة قوارب كثيرة فى الطريق ،منها التاكسى والاسعاف وقوارب البضائع ،( مثلما عندنا فى البلد البكاسى ،الامجادات ،الركشة،والكاروهات) ، فهذا حراك حياة كاملة والناس تستخدم فيه كل ما هو متاح،ولكن هنا الامر به بعض جاذبية ، لاختلافه عن المعتاد،اغلبية سكان المدينة لا يملكون السيارات ولا يعرفون قيادتها حتى، لانهم لا يحتاجون لها ،ولاوجود لها داخل هذه الجزيرة العجيبة،بعضهم عندما يخرج مسافرا يستخدم القطار ذهابا وإيابا ، لانه يشعر بالخوف من السيارة لسرعتها الغير معهوده لديه، ومعظمهم لا يطيقون العيش خارج مدينتهم رغم ما فيها من قيود،قال لنا صديقنا الايطالى الذى رافقنا بقاربه ، وهو من سكان فينيسيا ، انه لم يبت ليلة خارج فينيسيا منذ ستة وعشرون عاما،وقال هذه هى فينيسيا ولك ان تحبها او لا تحبها ،ولكنها الوحيدة فى العالم من هذا الطراز0
بالفعل هى المدينة الوحيدة من هذا الطراز ،توجد مدينه مشابهة هى امستردام بهولندا بها حى تتخلله شوارع مائية ولكنها ليست كاملة، اما هذه الفينيسيا لا يوجد بها شوارع اسفلت نهائيا ،فقط ماء، يعنى لو القارب منك على بعد مترين او ثلاثة لايمكنك الوصول اليه الا بمساعدة، ومن الطرائف اننا اثناء التجوال وجدنا واحد اوقف قاربه بجانب منزله ،وواقف ينتظر قارب من المارة ، ليأخذه لباب المنزل الذى يبعد ثلاث امتار فقط، وتجد اخر واقف بجانب باب المنزل ينتظر احد القوارب المارة لياخذه الى قاربه الذى بجانبه على مترين او ثلاثة ليذهب الى مشواره، هذا الموقف من الاشياء المعتادة عندهم،فقط يؤشر الى اى قارب مار ياتيه ويأخذه لقاربه او لمنزله، ويتشكره ويمر الى سبيله ،لان القوارب لها اماكن مخصصة للوقوف0
المدينة تكتظ بالسياح من مختلف الجنسيات،ولذلك فهى نشطة تجاريا ويباع فيها كل ما يخطر على بالك، تنتشر فيها المطاعم وبها تجد الاسماك بمختلف انواعها، وبطرق طبخ متعددة تناسب كل الاذواق ، ابدعوا فى التعامل مع واقعهم ،فسعدوا واسعدوا الاخرين الذين وفدوا اليهم،كانما يريدوا ان يقولوا إذا اردت ان تسعد انت ، فاجتهد فى اسعاد الاخرين ، وان الانسان بفطرته لايحس بالسعادة والمتعة الا مع الاخرين ، فالسرور يتسلل بين النفوس كالاشعاع الغير محسوس ،هذا الجمال فى طبيعة المدينة وسكانها، جعل الافواج تتقاطر عليهم،سياحا من كل صوب ،راينا مجموعات من امريكا واوربا واسيا ن يأتون للفرجة والتفريج ،يلبسون لباس الصيف، معظم النساء الامريكيات والاوربيات فوق الخمسين ، مات عنهم ازواجهم فى الغالب ،فجئن فى لغط وضوضاء،حال من يخرج من السجن، وقبضن حاصل بوليصة التأمين، وغدت الحياة عامرة بالاحتمالات،والسياح اليابانيون،قاماتهم سواسية ،وشكولهم ضربة لازب،يحملون حقائب كأن حقيبة نسلت من لونها حقائب،وفى رقابهم تتدلى كامرات التصوير، لانهم لن يذكروا الا ما سجلته الكامرات،يطلبون المتعة ،وسيحصلون عليها ، من البحر ودفئه، يدخلون ويخرجون ضاحكين ،يضحكون لاوهى الاسباب ،لانهم واثقون من انهم ينتمون الى امة قاهرة وحضارة غالبة، ويحملون الدولار الذى تقاس به العملات شرقا وغربا ،فمالهم لايضحكون ؟
أما انا فيكفينى من السعادة والضحك ما اراه امامى ، وما يتسلل الى من اشعاعهم على حين غفلة ،فازددت علما أن المال اصبح من أهم المقاييس التى يقاس بها الناس، وهو مقياس سهل ،يرى ويحس وله دوى ،اما الذكاء ، حسن الخلق ،الفضل والعلم ،فكيف لها ان تجد موقعا فى هذا المقياس ؟ هذا سؤال طالما حرت امامه ،خصوصا بعد ان رايت ما رايت من تحول فى مجتمعنا اليوم ،سبحان الله لانملك من المال شيئا كما الاخرون ،ونضرب فى الارض شرقا وغربا كأنما لا احد سوانا ، ونحن كأمة عربية وسودانية لولا الاسلام لما عرف لنا اصلا ولاموطنا ،ومع ذلك ضربنا بتعاليمه عرض الحائط ، فتجاذبتنا الاهواء ،فلا ارضا طلنا ولا سماء0والله إنى أكن لأمتى وبلادى إجلالا ومحبة ،ولكنى انتقد واقعنا المحيير،بالمقارنة مع غيرنا ،عسى ولعل أن يكون دافعا محفزا لنمو وتطور الوعى والادراك فينا،هذا ولسان حالى يقول ما قاله شاعرنا سيد احمد الحردلو، حينما يخاطب الوطن والبلد فى رمز الحبيبة معتذرا قائلا:-

أعذرينى أن كنت أغلظت صوتى
فهو شوق المتيمين،،،،،،،القدامى
أم تدرين كيف ،،،،،يختلج الحب
حين تمضى الايام ،،،عاما فعاما
إنه ،،، حرفة المشاعر فى الناس
وصوت ،،،،،، المعذبين اليتامى

الحبيب ود الياس
جزاك الله عنا الف خير وخير
فحقيقة ان للقلم لسحرا
وان للبيان لفكرة وفطرة
فقد كنت احد الخواجات الزين جابو معك هذة الرحلة
ولكن بفكر الانسان السودانى يعنى اسع كان الواحد فى الضحوة وكربت والناس كلها فاتت الحلة وقام حمارو انطلق منو اتخيلها بالفلينسى
والله قد اهديتنا فكرة وصورة حية عن هذة المدينة لو ذهبنا اليها مرايناها كما وصفتها
ولا ابالغ ان قلت اكثر من وصف اهلها
لكنى فى دهشة وحيرى
حتى تفك لك العتبى