لماذا يكون الإسلام ضحية بين تجارب الإسلاميين وآراء العلمانيين ؟ : ....... (( السودان نموذجاً ))
بقلم /الزبير محمد على
صحيفة أجراس الحرية 2009
المراجع التاريخية تؤكد أن الموجة التي حملت الرسالة الإسلامية إلى السودان كانت " موجة هادئة " منبعها التجار والرعاة الذين تدفقوا إلى السودان من المغرب العربي ومصر وشبه الجزيرة العربية واليمن؛ وهذا بعكس كثير من البلدان التي دخلها الإسلام عن طريق الموجة الساخنة " جيوش الفتح " .
لهذا لم تحتج الرسالة الإسلامية عند ولادتها بالسودان إلى عملية قيصرية، مع أنها مشروعة إذا تعسرت عملية الولادة بالصورة الطبيعية في ذلك الوقت .
هذه الوسيلة المدنية، مع أنها فريدة من نوعها، إلا أن كثير من السلبيات تخللتها، كإبقاء بعض الموروثات الثقافية المتعارضة مع تعاليم الإسلام وغير ذلك .
وهذا يفسر الوسيلة الخشنة التي اتبعتها الثورة المهدية في إزالة هذه الموروثات لإرجاع الناس إلى مجتمع الوحي، وربما تكون المهدية هي الموجة الوحيدة الساخنة في تاريخ السودان، وهي مشروعة إذا ما أحطنا بالظروف التاريخية التي لازمت تلك الفترة من الحاجة إلى تنقية المجتمع من الشوائب والارتفاع به إلى انتهاج تعاليم الإسلام في الحياة الخاصة والعامة .
ولما كانت الاستجابة لهذه الظروف مشروعة فان هذا لا يجعل هذه الخشونة متناقضة مع التسامح الديني الذي شهده السودان خلال الحقب التاريخية المختلفة .
وهنا يبرز سؤال إلى السطح، مع هذه الميزات التسامحية التي أوضحتها فما هو وضع الإسلام اليوم في بلادنا ؟
ثمة اتجاهات في الفكر السوداني ترى الإسلام بعيون مختلفة، بعضها عسلية تنظر إلى الإسلام باعتباره عقيدةً وفكراً يمثل خلاصاً للإنسانية إذا فهمناه فهماً خالياً من الغلو والتنطع من ناحية، ومن الفهم التحرري المؤمرك من ناحية أخرى .
أما بعض الآخرين فنظرتهم للإسلام حولاء ، وهؤلاء ينقسمون إلى صنفين :-
* صنف علماني بتعصب يتحدث عن إبعاد الإسلام عن السياسة باعتباره مقدساً من المقدسات التي لا يجوز التلاعب بها .وبما أن التجارب الإسلامية في السودان في فهمه أخفقت في إدارة عجلة البلاد على كافة المستويات الاقتصادية و السياسية والأمنية، بل وصاحبتها ظروف استقطاب ديني وثقافي، فلابد إزاء هذا الواقع أن يتم حصر الإسلام في القضايا الشخصية والأخروية و فصله عن مؤسسات الدولة و القضايا السياسية.
وصنف أخر سلفي بانكفاء يتحدث عن سجن الفكر الإسلامي حبيساً في إدراج التاريخ باعتبار أن هذا هو المخرج للأمة من الدرك الأسفل الذي تعيش فيه، فالحداثة عند هؤلاء هي "كفر مبين وطعن في الدين ". وبعضهم يرى حتمية تكرار المجتمع الأول نهائيا لان قدر الأمة جعلها تسير بعد كل قرن إلى الأسوأ، ويستدلون في دعوتهم هذه بحديث النبي(ص)(خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ... الخ ) وهذا تفسير ممعن في الخطأ لحديث النبي (ص)؛ لان القرآن يقول(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )
بجانب هذه المقل توجد مقل أخرى اشد تطرفاً في نظرتها إلى الإسلام ومن هؤلاء الذين يحصرون مفهوم الجهاد في القتال، بل وفي الاعتداء على المدنيين، وسمعنا في هذا المجال صيحات فحواهاأنه: (علينا أن نضرب اليهود أين ما وجدوا ومؤسساتهم أينما كانت) ونفس المنطق ينطبق على الأمريكيين والغربيين؛ حتى المدنيين منهم الذي يعارضون بشدة سياسات بلادهم الداعية إلى محاربة الإرهاب بوسيلة المحافظين الجدد، ويعارضون بشدة أيضا سياسات اليمين الاسرائيلى في تعاطيه مع القضية الفلسطينية.
تقابل هذه الفئة, فئةأخرى لم يجعل البارئ لها نعمة النظر؛ وهم الذين لم يكتفوا بدعوى فصل الإسلام عن السياسة بل يريدوننا أن نقتفي اثر الحضارة الغربية عقيدة ونمطاً ومنهج حياة، وبما أن الغرب في دعواهم لم يتقدم إلا بعد التحرر من سلطان الكنيسة فيجب على الأمة أيضاً الأخذ بأسباب نشوء الحضارة الحديثة دون الالتفات إلى الدين، ويجب عليها أيضا أن تتطور من مرحلة الدين إلى مرحلة العلم؛ هؤلاء لم يفرقوا بين " المح والإح"!.
أمام هذه المقل المتباينة يأتي دور المحدثين والمفكرين والعلماء الذين ينفون عن الإسلام انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين؛ هؤلاء عليهم مهمة التبشير بالإسلام كفكر وحضارة ومنهج حياة بصورة تقبل التطور المؤصل ذو الاتجاهين :
* اتجاه رفض التبعية العمياء للحداثة وضرورة استصحاب منافعها.
* اتجاه رفض سجن الفكر الإسلامي حبيساً في أدراج التاريخ والالتزام فقط بقطعيات الوحي والسنة باعتبار أن فيهما نجاة الأمة .
وفي هذا السبيل فعليهم أيضاً مهمة التصدي للتشوهات التي أضرت بالتجربة الإسلامية في السودان لا جرم تجربة مايو" السبتمبرية " وتجربة الإنقاذ " اليونيوية " .
وسائل هذا التصدي تحدده حصافة الذين تقع عليهم هذه المهمة، وارى من واجبي كمسلم ملتزم بالإسلام عقيدة ومنهج حياة أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض اللمسات التي يمكن أن تشكل علاجاً لهذا الاعوجاج، ويمكن أن يضيف الآخرون عليها لمسات أخرى تساهم في إظهار بريق الإسلام للذين أسأوا فهمه، أو الذين أسسوا مواقفهم بناءً على تجارب الإسلاميين، أو الذين تصوروا أن ما فعلته الكنيسة في محاربة الإصلاح في العصور المظلمة في أوربا سيفعله الإسلام، أو من يظن أن طريق الإصلاح كمدينة الفارابي الفاضلة .
إن أولى اللمسات التي تظهر بريق الإسلام لهؤلاء هي أن يعترف من خطط للتجارب الفاشلة ولصقها بالإسلام أن يقر بهذا الخطأ الفادح؛ وهذا بالتأكيد يتطلب شجاعة ويحتاج لتجرد من الو لاءات الضيقة، لصالح رحاب الإسلام الواسعة .
وغير معقول أن يفهم الجيل الجديد الإسلام على ما تلحقه التجارب الملصقة بالإسلام ظلماً وجوراً، واذكر أننا طلاب الجامعة لم نوقع ميثاقاً في الجامعة- والى الآن - إلا وتم اعتراض البعض على وضع ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في ديباجة الميثاق بحجة أنها تابعة " للإنقاذ "، فهل نريد للجيل الجديد أن يفهم الإسلام بهذا الشكل ؟ .
دعك أيها القارئ الكريم من الجيل الجديد، بل حتى بعض المعمرين في السن لديهم فهم اقرب من هذا الذي أوردته، فقد ذكر لي دكتور في الجامعة أن احد أصحاب السيارات وقف لشخص في منطقة منقطعة، فركب معه في السيارة، فلما وصل إلى ما يريد نزل الشخص من السيارة وقال له بعفوية: " جزآك الله خير" فقال له صاحب السيارة في رد مدهش للفكر والوجدان :" والله لو عارفك من جماعة جزآك الله خيرما كان وقفت ليك " !.
ما ذنب الإسلام من هذه الأشياء، سوى استلاب اسمه ظلماً وجوراً .
علينا أن نقر بشجاعة عن أخطاء التجارب " السبتمبرية، واليونيوية " ونحتاج لشجاعة اكبر من أولئك الذين خططوا ونفذوا هذه التجارب، فلا تكفي فقط اعترافات الأفندي ، و د/التجاني عبد القادر؛ بل نريد اعترافات مؤسسية لإزالة الشبهات التي تصدأ على مقل الأجيال القادمة وعلى عيون المرجفين حتى يروا براقة الإسلام التي هي ساطعة بإذن الله .
قال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق ) .