القراءة .. مدى الحياة
إن فطر الله - جل وعلا - لبني الإنسان على التساؤل وحب الاستكشاف أتاح لهم أن ينمّوا كينوناتهم المعرفية ، وأن يندفعوا دائماً نحو معرفة المزيد دون أن يجدوا أي حدود للتشبع أو الارتواء . كان العلم في القديم ، يقوم على (النقل) ، فكان التعلم والتعليم عبارة عن أفعال مقترنة بالزمان ، حيث يتمان وفق تتابع زمني ، وحين يموت العالم ، فمن الممكن أن يذهب معه أفضل ما يعرف ، وحين صار للغات أبجديات ، وتمتع الإنسان بنعمة الكتابة ، انتقلت المعرفة من حيز الزمان إلى حيز المكان ، وصار الحفظ والتوثيق والاسترجاع والنشر مما هو متاح على أوسع نطاق ، وبذلك أمكن للناس أن يطوروا معارفهم على نحو مدهش ، وصار للبشرية بذلك تاريخ جديد .
إن هناك دواعي كثيرة ، تفرض على الواحد منا أن يتعلم ، ويقرأ ، ويكتسب الخبرات مدى الحياة ، منها :
1- إن الذي يدعو الإنسان إلى مزيد من التعلم ، هو العلم نفسه ، إذ إنه كلما زادت المعرفة ، اتسعت منطقة المجهول ، والتقدم نفسه يعمل على زيادة حاجة الإنسان الشديدة إلى المعرفة ، حيث إن التوغل في حقول المعرفة ، يتيح إمكانات ومجالات جديدة ، ويولَّد دوافع جديدة للتقدم الأوسع نطاقاً . والمثقف الذي يرغب في الحفاظ على قيمة ثقافته وكرامتها ، مطالب بأن يعيد تكوين ثقافته على نحو مستمر ومتجدد ، وعندما يشعر بالاكتفاء بما لديه من معلومات ، سيضع نفسه على شفا الانحطاط . وإذا كان متخصصاً فإن أمواج القفزات العلمية في تخصصه ، ستقذف به نحو الشاطئ ، ليجد نفسه في النهاية خارج التخصص . الوضع الذهني للرجل متوسط الثقافة - فضلاً عن الضعيف - يسف وينحط بسبب ما يحتشد من النظريات والأفكار والمذاهب التي لم يعد بإمكانه المساهمة فيها ، حتى لو أبدى اهتماماً بها .
إن جهلنا ينبسط مع تقدم المعرفة ، كما ينبسط سطح التماس لكرة ما مع العالم الخارجي عندما يكبر قطرها ، وهذا يشكل تحدياً متزايداً لكل قارئ .
2- لم يكن لدى الناس قديماً إحساس قوي بارتباط كسب الرزق بمدى ما يحصلَّونه من علم ، لكن الوضع قد تغير اليوم ؛ حيث تتضاءل على نحو متصاعد المهن والوظائف التي يمكن للأميين ومحدودي الثقافة الاضطلاع بها . وسوف تجد الأمة التي لا يحسَّن أبناؤها مستوى معارفهم - على نحو مستمر- نفسها مؤهلة لأن تكون تابعة للأمم الأخرى ، ومستغلة لها على كل المستويات !
3- إن ما نمتلكه اليوم من معارف وخبرات ، لا يتمتع بقيمة مطلقة ؛ فسكان الأرض يشكلون عالماً واحداً ، وأهمية كل جزء من أجزاء هذا العالم ، تنبع دائماً من قدرته على الصمود والمنافسة وحل المشكلات ، وما يمتلكه من وزن في الساحات العالمية . وشيوع الأمية الأبجدية والحضارية ، قد جلب على أمة الإسلام مشكلات هي أكبر مما نظن ؛ وليس ذلك على صعيد المعيشة والإنتاج فحسب ؛ وإنما على صعيد فهم الإسلام أيضاً ؛ فالإسلام بما أنه بنية حضارية راقية ، لا يتجلى على نحو كامل إلا عبر تجربة معرفية وحضارية رائدة ؛ مما يعني أن التخلف الذي نعاني منه قد حال بيننا وبين رؤية المنهج الرباني على النحو المطلوب .
4- إن العقل البشري ، يميل دائما إلى تكوين عادات ورسم أطر لعمله ، وهي مع مرور الوقت ، تشكل نوعاً من البرمجة له ؛ والبيئة - بكل أنواعها - هي التي توفر مادة تلك البرمجة . وكلما كانت ثقافة الإنسان ضحلة ، وكانت مصادر معرفته محدودة ، ضاقت مساحة تصوراته ، وأصبح شديد المحلية في نماذجه ورؤاه ، عاجزاً عن تجاوز المعطيات الخاطئة التي تشربها من مجتمعه . والقراءة الواسعة ، والاطلاع المتنوع هو الذي يعظم الوعي لديه من خلال المقارنة وامتداد مساحات الرؤية ، وقد كان علماء السلف ، لا يثقون بعلم العالم الذي لم يرحل ، ولم يغبِّر قدميه في طلب العلم ، إدراكاً منهم لمخاطر البرمجة الثقافية القائمة على معطيات محلية محدودة .
5- التدفق الهائل للمعلومات ، وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع مستمر ؛ والنتيجة المباشرة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات . وتفيد بعض التقديرات أن نحواً من 90 % من جميع (المعارف العلمية) قد تم استحداثه في العقود الثلاثة الأخيرة . وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال نحو من 12 سنة . ويقول أحد الباحثين : إن على المتخصص المعاصر أن يضع في حسبانه أن نحواً من 10 - 20 % من معلوماته قد شاخ ، وعليه أن يجدده . ويرى أحد الباحثين أن أعراض الشيخوخة تعتري المعلومات بنسبة 10 % في اليوم بالنسبة إلى الجرائد ،
و10 % في السنة بالنسبة إلى المجلات ، و10 % في السنة بالنسبة إلى الكتب .
6- إن تقادم المعلومات يتجلى في صور شتى ، فتارة في ظهور زيفها أو عدم دقتها ، وتارة يتجلى في عدم ملاءمتها للخطط الجديدة ، وأحياناً بتحوّل الاهتمام عنها ، لأنها لم تعد ذات قيمة في البناء المعرفي ، وأحياناً بقراءتها قراءة جديدة ، أي :
إنتاجها مرة أخرى على نحو يبعدها عن مضامينها الأولى ...
والعلاج لذلك كله دوام الاطلاع والمتابعة ، حتى لا يتدهور ما لدينا من معرفة ، وحتى لا نغرق في الضلالات والأوهام التي تنتشر باعتبارها مفرزات جانبية للتقدم العلمي .
القراءة ومصادر المعلومات الأخرى :
عصرنا عصر انفجار المعرفة ، فالأعداد الهائلة من العلماء الذين يشتغلون بالبحث العلمي ، والوسائل المتطورة في حفظ المعلومات ونقلها وبثها ، والتواصل الكوني الفريد والمتزايد ، كل ذلك جعل الناس مغمورين بالأخبار والمعلومات والمفاهيم التي ترد إليهم كل لحظة من شتى أصقاع الأرض . هذه الوضعية حملت الناس على طرح سؤال حول ما تبقى من وظيفة للقراءة والكتاب ، كما حملت كثيراً من المثقفين على الجهر بمر الشكوى من هجر الكتاب ، والافتتان بما تعرضه وسائل الإعلام المختلفة من برامج ومواد ثقافية متنوعة . والحقيقة أن لتلك الشكوى ما يسوغها ، إذ إن هناك مؤشرات واضحة إلى إعراض الناس عن القراءة واقتناء الكتاب ، والى إقبالهم على قضاء أوقات طويلة أمام الوسائل الإعلامية المختلفة .
ويكفي أن نعلم أن متوسط ما يطبع من معظم الكتب في البلاد العربية لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسخة للكتاب الواحد .
وهذا العدد المحدود لا ينفد في الغالب في أقل من ثلاث سنوات عادة ، على حين تتجاوز أرقام التوزيع في الدول المتقدمة ذلك بكثير ، بما لا يدع أي مجال للمقارنة !
إن وسائل الإعلام تقدم برامج على درجة عالية من الزخرفة والإتقان ؛ مما يعطيها جاذبية عالية . فاذا أضفنا إلى ذلك انعدام البواعث على القراءة وانعدام التقاليد الثقافية المحبذة لاقتناء الكتاب واصطحابه - أدركنا وضعية القراءة في عالمنا الإسلامي !
إن وسائل الإعلام تقدم معلومات متشظية ، قلما تتصل بالحاجة المعرفية الحقيقية للمتابع لها ، كما أن المعروف أن المعلومات الكثيفة حول أي شيء قد تقف حائلاً دون فهمه على الوجه الصحيح ، تماماً مثل الحقائق والمعلومات القليلة عنه ؟ فللعقل طاقة محدودة على التحليل والتصنيف والغربلة لما يرد عليه ، وحين يزيد على طاقته ، فإنه يربكه ويشتته .
من وجه آخر فإن وسائل الإعلام الحديثة ، قد سببت أضراراً بالغة للشعور بالحاجة إلى التفكير ، فكتَّابها ومعدُّو برامجها قاموا بذلك نيابة عن المتلقين . إن مشاهد (التلفاز) ومستمع الإذاعة وقارئ المجلة أو الجريدة .. يتلقى مركَّباً كاملاً من البيانات والإحصاءات المنتقاة بعناية ، والمصوغة بأسلوب بلاغي بارع ، مما يدهش القارئ ، ويدفعه إلى نوع من الاستسلام لها ، والانقياد إلى توجهاتها دون القيام ببذل أي جهد شخصي ؛ وهذا كله مغاير لمتطلبات التطور العلمي والاجتماعي الحديث ، والذي يتطلب منا القدرة على الإبداع ، وترشيد المحاكمة العقلية أكثر من الانشغال باستيعاب بعض مفردات المعرفة واستظهارها . هذا كله لا يجعلنا ننكر أن الدفق الإعلامي والمعلوماتي الهائل ، قد أوجد نوعاً من الاستنارة العامة ، ورفع درجة الوعي لدى الناس ، كما أنه ملكهم الكثير من المعلومات العامة .
إن الهامش الذي يفصل بين التسلية وبين التثقيف الحق هامش ضيِّق ، ومن السهل أن يكون ما نستمع إليه ونشاهده ضرباً من ضروب التسلية ، وتزجية الوقت ، ونحن نظن أننا نتعلم . واعتقد أن الكتاب ما زال هو الوسيلة الأساسية للتثقيف الجيد ، حيث نستطيع أن نمارس حريتنا كاملة في اختيار ما نحتاج إليه ، وهو لا يحتاج إلى آلات مساعدة للاطلاع عليه ، كما أنه رخيص الثمن إذا ما قورن بغيره .
ولست مع هذا أميل إلى التقليل من شأن مصادر المعلومات الأخرى ؛ فالمهم دائماً أن تكون أهدافنا في التثقيف والارتقاء المعرفي واضحة ، ثم نبحث عن الأدوات والوسائل التي تبلغنا إياها .
والله ولي التوفيق ، ، ،