1)
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، سَهَّل لِهجْرةِ رَسولِهِ المَسالِكَ، وجَعلَها نوراً أَضاءَ الأَمصارَ والمَمالِكَ، أَحمَدُهُ تَعالَى بِما هوَ لهُ أَهلٌ مِنَ الحَمدِ وأُثنِي عَليهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَليهِ، وأشهدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، وأشهَدُ أَنَّ سيِّدَنا مُحمّداً عَبدُهُ ورَسولُهُ، خَيْرُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى رَبِّهِ وامتَثل، ودَعا إِلَى هَجْرِ المَعاصِي والآثامِ مَا ظَهَرَ مِنها ومَا بَطَنَ، صلى اللهُ عليهِ وعَلَى آلهِ وصًحبِهِ وسلَّم.
أَمّا بَعدُ، فَيا عِبادَ اللهِ:
إِنَّ التّارِيخَ جُزءٌ مِنْ حَياةِ الأُمَمِ، وضَوءٌ يَستَرشِدُ بِهِ الإِنسَانُ فِي مَسيرَةِ حَاضِرِهِ واستِشرافِ مُستقْبلِهِ، فَقِراءةُ أَحداثِ المَاضِي مَا هِيَ إِلاَّ استِكشافٌ لِعَوامِلِ السُّموِّ والارتِقاءِ أَو التَّدهورِ والانحِدارِ، فَاكتِشافُ السُّنَنِ التَّارِيخيَّةِ وقَوانِينِ مُداوَلَةِ الأَيّامِ وأَحوَالِ الأُمَمِ تَجعَلُ الإِنسَانَ علَى وَعيٍ بِالمسَارِ الذِي يَتّجِهُ إِليهِ والغَدِ الذِي يَنتَظِرُهُ، لِذلِكَ حَفِلَ القُرآنُ بِآياتٍ مُطَوّلَةٍ تَتَحدَّثُ عَنْ أَخبَارِ السَّابِقينَ مِنْ أَنبِياءَ وأَقوامٍ، ومَا لَهُم مِنْ مَواقِفَ، ومَا آلتْ إِلَيهِ
(2)
حَياتُهُم مِنْ رُقِيِّ ونَصْرٍ أَو انحِدارٍ وهَزِيمَةٍ. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ المَحَطَّاتِ المُهِمَّةِ فِي التّارِيخِ مَنَاراتٌ تُؤَرَّخ بِها الأَحدَاثُ، ويُحسَبُ مِنْ خِلالِها الزَّمانُ، وإِنْ كَانَ لِلمُسلِمينَ مِنْ وَقفَةٍ مَعَ التّارٍيخٍ فَأَوَّلًُ مَا يَنبَغِي أَنْ يَقفِوا عِندَهُ هوَ تَارِيخُ نَبِيِّهم وسَيرتُهُ تِلكَ السِّيرَةُ التِي تُجَسِّدُ وَعيَ الرَّسولِ بِعَناصِرِ الزَّمَنِ، وَعيَهُ بِالماضِي الذِي حَدّثَهُ القُرآنُ عنهُ، ووعيَهُ بِحَالِ قَومِهِ ومَا هُم علَيهِ، وكَذَلِكَ رؤيتَهُ الثّاقِبَةَ لِلمُستَقبَلِ والتِي تَستَنِدُ إِلى استِحضَارِ سُنَنِ التّارِيخِ ومَا فِيها مِنْ عِبَرٍ. وحَرِيٌّ بِنا أَيُّها المُؤمِنونَ ونَحنُ نَمُرُّ بِذِكرَى الهِجرَةِ النَّبويَّةِ أَنْ نَتَوقّفَ قَلِيلاً لِنقْرأَ دُروساً مِنْ تِلكَ المَرحَلَةِ فِي ضَوءِ واقِعنا المُعاصِر، فَحَدثُ الهِجرَةِ لَمْ يَكُنْ حَدثاً عَاديّاً أَو عَابِراً، بَلْ لَهُ أَثَرُهُ العَمِيقُ فِي مَسارِ التّارِيخِ، بِما حَمَلَهُ مِنْ مَعانٍ جَلِيلَةٍ، ودُروسٍ وعِبَرٍ عَظِيمَةٍ، لاَ تَنقَطِعُ
(3)
دِلالَتُها، ولاَ يَجِفُّ يَنْبوعُها، فَهوَ حَدَثٌ يَتَجدّدُ ذِكْرُهُ فِي مَطْلَعِ كُلِّ عَامٍ، ليُجَدِّدَ المُسلِمُ مَعَهُ حَياتَهُ، فَيسعَى لِصَلاَحِ حَالِهِ، ويَجعَلَ يَومَهُ خَيراً مِنْ أَمسِهِ، وغَدَهُ خَيراً مِنْ يَومِهِ، وعَامَهُ الجَدِيدَ أَفضَلَ مِنْ عَامِهِ المَاضِي، فَيسعَى إِلى رِضَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ والتَّوبَةِ مِنَ الهَفواتِ والزَّلاَّتِ، وزِيادَةِ الهِمَّةِ والنَّشاطِ لفِعلِ الخَيراتِ، وتَحقِيقِ الأَهدَافِ والارتِقاءِ نَحْوَ حَياةٍ أَفضَلَ وسلوكٍ أَمثَلَ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ مَا قَبْلَ الهِجرَةِ لَيسَ مَرحلَةً انتَهتْ مِنْ تَفكِيرِ المُسلِمينَ، ولَمْ يَكُنْ سُلوكُ الرَّسولِ فِيها سُلوكاً انتَهَتِ الأُسوَةُ فِيهِ أَو نُسِخَ العَمَلُ بِهِ، إِنَّما هوَ دَرْسٌ مِنَ الدُّروسِ ومَنهَجٌ مِنْ مَناهِجِ البِّناءِ، فَالرَّسولُ أَسوَةٌ وقُدوَةٌ فِي جَمِيعِ مَراحِلِ رِسالَتِهِ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. فَالوعْدُ الإِلهيُّ لِنبِيِّهِ بِالنَّصرِ لَمْ يَكُنْ مَصدَرَ غُرورٍ لِلمُسلِمينَ، والثِّقَةُ بِما عِندَّهُم مِنَ الحَقِّ لَمْ يَكُنْ مَصدَرَ
(4)
استِكبارٍ، والضَّعفُ الذِي كَانوا علَيهِ لَمْ يَكُنْ دَافِعَ عُنْفٍ، فَالحِكمَةُ كَانَت سَيِّدَةَ المَوقِفِ، والأَمَلُ والحِرصُ علَى شُيوعِ الخَيرِ هُوَ المُوجِّهُ لِلمؤمِنينَ، كَما أَنَّ مِنْ شَأنِ المُؤمِنِ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ اليَأسَ والتَراجُعَ، وأَنّهُ إِنْ حَقّقَ بَعْضَ مُرادِهِ لاَ يَعْرِفُ الغُرورَ، فَهوَ دائماً يَطْمَعُ لِما هوَ أَفضَلُ، ويُوقِنُ أَنَّ بِمقدُورِهِ أَنْ يُقَدِّمَ خَيراً مِمّا قَدَّمَ وأَنْ يُنْجِزَ أَكثَرَ، وهَذا شَأْنُ المُسلِمِ دائماً، فَرِسالتُهُ أُفقٌ لاَ حُدودَ لَهُ، وعَطاءٌ لاَ يَنتَهِي، ولَوْ كَانَ هُناكَ مَا لاَ يَرْضَىِ عَنهُ فَهوَ مُكَلَّفٌ بِالعَمَلِ والإِصلاَحِ، وإِنْ قُمتَ -أَخِي المُسلِمَ- بِما يُثلِجُ صَدرَكَ ويُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلنّاسِ، فَلتَعلَمْ أَنّكَ قَادِرٌ علَى أَداءِ الأَفضَلِ، فمَا دامَ فِي الإِنسَانِ رَمَقٌ مِنْ حَياةٍ فَلَديهِ أَمَلٌ فِيما هوَ أَفضَلُ، ولَئنْ كَانَ القُرآنُ يَدْعو لِلتي هِيَ أَقوَمُ، فَإِنَّ الأَقومَ لاَ حَدَّ لأَعلاَهُ، أَمّا الواجِبُ فَحَدُّهُ الاستِطاعَةُ والقُدْرَةُ وبَذْلُ الوسْعِ. لَكِن الذِي قَدْ يَنْقُصُ البَعْضَ هوَ الصّبرُ والأَناةُ والحِكمَةُ، يَنقُصُه مَنهَجُ رَسولُ اللهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ ومَنهَجُهُ بَعْدَها، وهُما مَنهَجانِ مُتكامِلانِ،
(5)
عُنوانُهُما الحِكمَةُ والمَوعِظَةُ الحَسَنةُ والجَدَلُ والدَّفعُ بالتِي هِيَ أَحسَنُ. لِيَبحَثَ كُلٌّ مِنّا فِي سُلوكِهِ ويُحاسِبَ نَفسَهُ، عِندَها يُدْرِكُ المُسلِمُ مَاذا تَعنِي الهِجرَةَ؟ وكَيفَ يَتَمسَّكُ بِالحَقِّ ويَصْبِرُ علَيهِ ويُوصِي بِهِ، فَاستَلهِموا إخْوَانِي مِنَ الهِجْرَةِ مَبادِئَ تَستَنيرونَ بِها فِي حَياتِكُم، ومَنهَجاً تَبنونَ بِهِ مُستَقبَلَكُم.
الحديث :
في صحيح الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا». أو كما قال .
إِنَّ سَرْدَ أَحْداثِ الهِجْرَةِ أَمرٌ لاَ يَتَّسِعُ لَهُ المَقامُ، ويَنبَغِي علَى كُلِّ مُسلِم فَهْمُ سُنَنَ التَّارِيخِ وأَخْذُ الدُّروسِ والعِبَرِ مِنهُ، والاستِفادَةُ مِنْ جَوهَرِ الأَحداثِ وخَلْفِيّاتِها، وتَوظِيفُها فِي تَقْويِمِ سُلوكِنا وحَوادِثنا واستِثمارُ إِمكانَاتِنا. إِنَّ الهِجْرَةَ مَحَطَّةٌ لِلتَّفَكُّرِ لاَ لِلتَّذَكُّرِ فَحَسبْ، ولِلتّأسٍي لاً للتَّسلِّي، إِنَّها مَحَطَّةٌ لِتَقويمِ السُّلوكِ والأَخلاَقِ، فَإِنَّ رَسولَ اللهِ وعلَى الرَّغمِ مِمّا لاَقاهُ مِنْ أَعدَائهِ لَمْ يُؤثِرْ ذَلِكَ علَى خُلُقِهِ الرَّفِيعِ مَعَهُم وسُلوكِهِ القَويمِ فِي مُعامَلَتِهم، فَكلَّفَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ أَقرَبَ النّاسِ إِليهِ ابنَ عَمِّهِ علَيَّ بنَ أَبِي طَالبٍ -كَرَّمَ
(7)
اللهُ وَجهَهُ- بِأداءِ الأَماناتِ التِي كَانَتْ مَعَهُ عَمَلاً بِقولِهِ تَعالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا،
عِبَادَ اللهِ:
المُسْلِمُونَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإنْ تَبَاعَدَتْ دِيارَهُم وَتَبَايَنَتْ أَلوَانَهُم وَاخْتَلَفتْ أَلسِنَتَهُم، يَجْمَعُهُم القُرآنُ، وَيوحِّدَ أهْدَافَهُمُ الإِسْلاَمُ، شِعَارَهُمُ الأُخُوَةُ الصَادِقَةَ والمَوَدَةُ الخَالِصَةَ.