إن للاسفار متعة وتفريج هم ،خصوصا اذا كانت عبر بلدان وشعوب لها حضارة وثقافة مختلفة، لان ذلك مدعاة للمقارنة ونقد الذات (وليس جلدها) ، فقد اسعدتنى الايام بفسحة من الترحال فى درب الحياة ، بالسفر مثل كثير من الناس حول اوروبا واسيا الشرقية عبر مدن مختلفة ، وبما انى من غمار الناس وعامتهم فقد استوقفت نفسى ، كعابر سبيل، وسائح أتذكر ،وأتأمل ,وازداد علما ومعرفة ، ويا ما تكشفت لى عواهنى وجوانب القصور فى نفسى، دعك من اسفى على مجتمعنا العريض فى السودان
فى ابريل من عام 2009 ، كنا فى رحلة عمل من سويسرا الى ايطاليا، مع شركة ايطالية ، بدات الرحلة برا ،من مدينة بازل السويسرية التى يشقها نهر الراين لنصفين، كلاسيكية المبانى ،بعدد خمسة طوابق كحد اقصى،تغطى ارضيتها طبقة اسفلتية كاملة ،عدا الحدائق ،نظيفة تماما ،تغسل شوارعها بمطهرات بصورة دورية ،غير غسيل الامطار اليومية،وتعج بالحركة واجراس الكنائس،فى نظام محير مثل خلايا النحل،تتحرك فيها السيارات ،القطارات، السياكل (العجلات) والمشاة،بنظام وقانون صارم للحركة،يلتزمة الجميع ،من الطريف حتى السياكل لها رخص قيادة ، ومواقف خاصة بها ،ومخالفات مرورية، معظم مواطنيها ،حتى كبار السن يفضلون السياكل ،للرياضة وتخطى الزحام ،نظام النفايات يسرى حسب الصنف، نفايات المطبخ تجمع منفصلة عن نفايات النظافة العامة، ونفايات الاجهزة والاثاث،وذلك مهما فى صناعة اعادة التدوير، الناس فى حراك منظم ،كل يقوم بعمله بزمن واحترام للقانون والنظام العام، ولا أحد فوق القانون، الاسواق تفتح وتغلق بزمن محدد،زرت بازل تسعة مرات فى العقد السابق، كل مرة اكتشف فيها شيئا جديدا، هذه المدينةالهادئة، لها تاريخ عند اليهود والاسرئليين،ففيها معقل الحاخامات واساطينهم ،وهى المدينة التى تم فيها الاجتماع الذى تقرر فيه احتلالهم لفلسطين الحبيبة فى سنة 1948 م ،ذاك الاحتلال البغيض الذى كشف ضعف ووهن الامة العربية ببقائه حتى اليوم ،وانتشر اثره ليشمل سيادة معظم الدول العربية ،على فكرة هذه هى المدينة التى يسكن فيها الاخ الصديق الصادق حبيب الله (ابورندة)،فقد جمعتنى به الصدفة بطريقة مدهشة وسط هذا الزخم العجيب سأحكيها لكم لاحقا
خرجنا من فندق الاكسندر ببازل فى التاسعة صباحا بسيارة متجهين الى مدينة فينيسيا العائمة ،بالبحر الادرياتيكى فى ايطاليا،عبر الطريق السريع من الاسفلت المرصوف برصانة ، كان الجو باردا والشمس محجوبة تبحث عن منفذ لاشعتها ،والخضرة تكسوها حبات الجليد على جانبى الطريق ، تجسد لوحة جميلة ،توقظ الافكار النائمة فى العقل البشرى،وتهدىء ثائرة النفس، توقفنا فى محطة على الطريق بعد نصف ساعة، لتناول وجبة الافطار وتزويد السيارة بالوقود لان الرحلة طويلة .
المحطة مجهزة من كل اصناف الخدمات للمسافرين ، معمولة بفن ومهارة، اهتم فيها المهندس بالنظافة والاصحاح البيئى ،ودواعى الجمال بمرجعياته الطبيعية والتاريخية،تجد اللوحات الفنية على الجدران ،والتماثيل على الممرات، تحفها الزهور بسناها العطر، شىء يجلب لك المتعة من حيث لا تدرى ،كل ذلك بتقنية عالية كانما يريدوا ان يقولوا لزائرهم، انك وسط شعب عميق الاحساس،واسع الثقافة
ليست كما نحن المحطات فى الطرق السريعة، معظمها لاتزال رواكيب أجارك الله، تلفحك الشمس فيها وتهبك الريح والغبار من كل جانب ،ولا احد ينادى إلا نداء الشعارات الذى اشتهرنا به،ولكنها بلادنا، وسنظل نتشبث بها كالذى يقبض على الجمر ، ونلهج بحبها فى اصرار فيه معنى ،التحدى والغيظ والحسرة ، ولنا فى شاعرنا محمد المهدى المجذوب رحمه الله ، الذى اهتزت شاعريته بحب السودان كشجرة اتتها الماء بعد طول غياب، حين غنى لسودان الامس ،الذى هو ابعد ما يكون عن السودان اليوم فقال:-
ما سقتنى على الظمأ شفة خضراء أحلى من الزلال وانقى
كشفت وجهها وزينتها الحسنى وكم اشتهى وكم تتوقى
غسلت مهجتى بطهر سجاياها فلم ترضى أن نهون ونشقى
انا اهواك يا بلادى ما واليت غربا ولا تبدلت شرقا
الاهتمام بالاصحاح البيئى دليل على وعى الشعوب وتحضر الامم،لما له من انعكاسات فى المزاج والصحة العامة ،،فالعقل السليم فى الجسم السليم ،ولاادرى لماذا قادتنا وساستنا لم يضعوا هذا الامر من اهدافهم الاستراتيجية، فمدينة كالعاصمة المثلثة ،والنيل يسعى بين جوانبها كالنبأ السار ،بها تمازج اجتماعى ذو فن وادب ،وتتوفر فيها كل مقومات الجمال الطبيعية، ولكنها ظلت على فقرها منذ الاستقلال ،فقط تريد منهم جهد المقل لتصبح مدينة ذات جاذبية سياحية ، ولكنهم كعادتهم اثروا ان يثروا هم اولا ،يسكنون فى بناياتهم ووفللهم الفخيمة،ويتنقلون فى شوارعها المحفرة بسياراتهم الفارهة ،ويتركوا العاصمة الفتية ،واهلها تتقاذفهم الاوبئة من كل جانب ، أما بقية مدن السودان فإذا كانت تلك حالة عاصمتها ،فشيمتها الرقص والطرب بكل تاكيد،سبحان الله كل ذلك وساستنا ،يزعمون انهم هم الذين اصلحوا اعوجاج السودان،ويريدون ان يصلحوا العوج ،فى كل من تونس والجزائر،لبنان ومصر ، بلاد الخليج... وبلاد الافغان ،بتكوين دولة الاسلام العظمى ،أى دولة اسلامية هذه التى تتحدثون عنها، وانتم تنعدم فيكم اهم المبادىء الاسلامية (النظافة من الايمان)،(لايؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه) ،ومواطنكم يتهدده الفقر والجوع والمرض،بعد ان مزقت امتنا الحروب ،كأنما يريدون وطنا لا يتسع الا لنوع واحد من الناس ، ولم يقرروا بعد ، اى نوع من الناس يريدون ، صدق الشاعر الفحل محمد سعيد العباسى ،الذى نبأنا بسودان اليوم قبل خمسين عاما ، فى ابياته:-
تحية الله يا ايام ذى سلم *** ايام لم تخشى بأس القاهر العادى
أيام كنا وكان الشمل مجتمعا*** وحينا حى طلاب وقصاد
فإن جرى ذكر ارباب السماحة*** نادى الكرام فإنا بهجة النادى
واليوم ابدت لنا الدنيا عجائبها***بما نقاسيه من حرب واحقاد
وما رمى الدهر وادينا بداهية ***مثل الأليمين تفريق وإبعاد
رحمه الله ،قرأ لنا الفنجان، وكأنه معنا اليوم يسمع ويرى،إن الامم التى تنجب أمثال هؤلاء الشعراء ،لن تقهر أبدا،ويوما ستخرج من مغطسها الطويل، بعد ان وصلت لقاع قاع النيل ،فليست ذاك على الله ببعيد
تحركنا من المحطة على الطريق السريع بعد ان اخذنا درسا فى عمق الحس ، وكيف نحترم ذاتنا وبلدنا ، وإنعطفت السيارة يسارا مع وصولنا لجبال الالب ، وهى سلسلة جبلية شاهقة الارتفاع و طويلة افقيا ، تكسوها الثلوج فى الجزء الاعلى ،والخضرة فى الجزء الاسفل ، لان اعلاها باردا جدا وتمر من خلاله السحب ،واسفلها دافئا نسبيا، لذلك يتركز الجليد على القمم والمنحدرات مع الخضرة الكثيفة ، حينها لم نحتمل ان نمر فى هذا المنظر مرور الكرام، ترجلنا من السيارة لنروى ظمأ الطفولة والحرمان، بالتمرق واللعب المباح بالجليد ،كما الاطفال يشيدون قصورهم وعندما يسأموا يقوضوها ويرحلوا لاشباع رغبة اخرى
سنعود لنواصل باقى الرحلة،،،،،،

إننى ممن يبحثون عن رئة جديدة للدورة المهترئة
أعنى بها دماءنا الكريمة فى الأمة المنكوبة العظيمة