(1)
* الإسلام في حياة عمر
الحمد لله حمداً يليقُ بجلالِهِ, وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا ونبيينا محمداً عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد عباد الله :
فقد جاءت الشريعة الخاتمة بعد انتشار صور العدوان وألوان الظلم التي مورست ضد الضعفاء والمساكين، لتخرج الناس من جور الأديان إلى عدالة الإسلام، وأنزل الله خير كتبه وبعث خير رسله ليقيم العدل ويُرسي دعائم الحق، لتعود الحقوق إلى أصحابها، ويشعر الناس بالأمن والأمان، وبهذا أُمر النبي {وأمرت لأعدل بينكم}. وفي ظلال المنهج العادل للنبي عادت الحقوق إلى أصحابها وعلم كل امرئ ما له وما عليه، وشعر الناس – مسلمهم وكافرهم – بنزاهة القضاء وعدالة الأحكام، فلا الفقير يخشى من فوات حقّه، ولا الغني يطمع في الحصول على ما ليس له، ولا الشافعون يطمعون في درء حدٍّ من حدود الله تعالى.
(2)
فلنتأمل هذه القصة من حياة سيدنا عمر بن الخطاب قال الأحنف بن قيس : ما كذبت إلا مرة واحدة، قالوا وكيف ذلك يا أبا بحر؟ قال: وفدنا مرة على عمر بن الخطاب بفتح عظيم، فلما دنونا من المدينة قال بعضنا لبعض: لو ألقينا ثياب سفرنا ولبسنا ثياب تجملنا فدخلنا على أمير المؤمنين، وعلى المسلمين في هيئة حسنة، لو فعلنا ذلك لكان أمثل بنا وأجمل، قال الأحنف: فخلعنا ثياب سفرنا الوسخة، ولبسنا ثياب الزينة والجمال، فما ظهرت لنا مدينة الرسول الكريم حتى لقينا رجل فقال: (انظروا إلى هؤلاء، أصحاب دنيا ورب الكعبة). قال الأحنف: وكنت رجلاً ينفعني رأيي، فعلمت أن ذلك ليس بموافق القوم، فعدلت إلى ناحية من الطريق، فخلعت عن بدني الثياب الجديدة الجميلة، وأعدت لبس ثياب سفري الخشنة الخلقة، ثم ركبت راحلتي ولحقت بأصحابي، فدخلنا على عمر، فلما رآنا أعرض عن أصحابي المتزينين بالثياب الجميلة الجديدة، ونبت عيناه عنهم، ووقعت عينه علي، فأقبل علي
(3)
يسألني، أين نزلتم؟ قلت: في مكان كذا وكذا، فقال: أرني يدك، فقام معنا إلى مناخ ركابنا، فجعل يتخللها ببصره، ثم قال: {ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه؟ أما علمتم أن لها عليكم حقاً؟ ألا قصدتم ورفقتم بها في المسير؟ ألا حللتم عنها أحمالها حتى تأكل من نبات الأرض؟ فقلنا يا أمير المؤمنين: إنا قدمنا بفتح عظيم، فأحببنا أن نسرع إلى أمير المؤمنين، وإلى المسلمين بما يسرهم قال الأحنف: فحانت من عمر التفاته، فرأى أغراض سفري وثيابي، قال: لمن هذه الأغراض؟ قلت لي يا أمير المؤمنين، قال فما هذا الثوب؟ قلت: ردائي، قال بكم اشتريته؟ فأخبرته بعد أن ألقيت ثلثي ثمنه، فقال إن ثوبك هذا لحسن، لولا كثرة ثمنه، قال الأحنف: ثم انطلق أمير المؤمنين عمر راجعاً ونحن معه، فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي، فأعني وانصرني على فلان فإنه قد ظلمني وجار علي. قال الأحنف: فرفع عمر درته التي كان يؤدب بها الناس، فضرب بها على رأس الرجل وقال: تدعون أمير المؤمنين
(4)
وهو فارغ، حتى إذا شغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه قائلين، أعذني، أجرني، أنصرني فانصرف الرجل وهو مغضب يتذمر، فقال عمر {ردوا علي الرجل، فألقى إليه درته التي ضربه بها، وقال له امتثل ما أقوله لك؛ واقتص لنفسك مني بما ضربتك وآذيتك فقال الرجل لا والله لا أفعل، ومعاذ الله أن أقاصصك يا أمير المؤمنين، ولكن ادعها لله ثم لك، قال عمر: ليس هكذا العفو إما أن تدعها لله إرادة ما عنده من الثواب والآجر، أو تدعها لي فأعلم ذلك، قال الرجل: بل ادعها لله، قال الأحنف فانصرف عمر حتى دخل منـزلة ونحن معه فافتتح الصلاة وصلى ركعتين، وجلس ثم صار يخاطب نفسه قائلاً: يا عمر كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله ثم حملك الله على رقاب الناس، فجاءك رجل يستنصر بك على ظالمه فضربته؟ يا عمر، ما تقول لربك غدا إذا أتيته؟ قال الأحنف: فجعل عمر يعاتب نفسه في ذلك معاتبة، ظننا أنه من شر أهل الأرض. هذه قصة قصيرة فيها عبرة بالغة،
(5)
وتصوير بارع دقيق يكشف لنا عن نفسية آبائنا، عن نفسية قادتهم وزعمائهم، وما انطوت عليه من أخلاق مثالية رائعة، وصفات إنسانية ووطنية كاملة في ظلال تربية القرآن والإسلام، وإذا كانت هذه أخلاق القادة والسادة، أفليست أخلاق الشعب ومناقب أفراده وشمائلهم عندئذ رشحة من أخلاق أمرائهم ونسخة عنها؟ ولقد نطقت بذلك الآثار والحكم حيث تقول: {الناس على أديان ملوكهم}. هذه قصة قصيرة تصور لنا كيف كانت أخلاق المجتمع الإسلامي الرفيعة، وشمائله الإنسانية الكاملة، التي أوجدتها في النفوس، التربية الإسلامية الصحيحة، القائمة على دراسة القرآن الدراسة الواعية، والمستمدة من إشراف المربي الأعظم سيدنا محمد ومن ترويضه للنفوس، وتزكيته للأرواح، حتى جعلت الشخص المسلم يقول بكل فخر واعتزاز: {ما كذبت بعد الإسلام إلا مرة واحدة}. { أيها الأخوة }: نجد في هذه القصة الصغيرة مرآة تعكس لنا انطباعات الإسلام العملي في نفوس الأمة والمجتمع، ذلك
(6)
المجتمع الذي جعل الإسلام كل أفراده، يرون أن قيمة الإنسان بالأعمال الصالحة، والفعال الحميدة المفيدة، والخصال الشريفة النافعة، لا بالثياب المزركشة والخرق الملونة، أو الترف والاسترسال وراء التزين الشكلي والتحلي الصوري، ألا وإن أصدق دليل على ذلك هو رُقي رجل الشارع آنذاك، وقوله وقد رأى زينة الوفد {أصحاب دنيا ورب الكعبة}. هذه القصة الصغيرة تنقل إلينا عظيم تأثير ثقافة الإسلام، في المجتمع العربي الأول، تلك التربية والثقافة التي بدأ تخطيطها من صيانة حقوق الأفراد والمجتمع حتى الحيوان وما يلزمه من عناية ورفق، فها نحن نرى أمير المؤمنين عمر يقوم بنفسه إلى مراح الدواب ومباركها يتفقدها، يتفقد طعامها وشرابها حتى إذا رأى الدواب لم تأخذ قسطها من الراحة والعلف، أعلن انتصاره لحقوق الحيوان، وغضبه من إهماله قائلاً: {ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه! أما علمتم أن لها عليكم حقا؟ ألا رفقتم بها في المسير؟ ألا حللتم عنها أحمالها، حتى تأكل من نبات الأرض؟!}. قصة قصيرة
(5)
تبين لنا مقدار كرامة الشعب والأمة، كرامة الشخص والفرد، وقدسية حقه في نظر الحكومة الإسلامية، ورئيس دولتها.
قصة قصيرة في ظلال الإسلام والقرآن، تبين لنا مدى احترام القانون وتعميم تنفيذه، وتبين لنا كيفية شمول تطبيقه على الخاص والعام من غير تمييز بين حاكم ومحكوم، ولا تفريق بين غني وفقير، فها نحن نرى في قصتنا العمرية، نرى رئيس الدولة عمر قاهر كسرى وقيصر يحمله اجتهاده على تأديب شخص من رعيته، فيضربه على رأسه، ثم يتبين لأمير المؤمنين أنه أخطأ وجار في حكمه، فلا يمنعه شيء دون أن يعلن ويعترف أنه قد أخطأ، ثم لا يقف عمر عند حد الاعتراف بالخطأ، حتى يتجاوزه إلى الرجوع عن الخطأ، وإلى التفكير فيه، وأي رجوع هو؟ وأي تكفير؟ يقول عمر للرجل وقد ناوله درته التي ضرب بها رأسه: {أيها الرجل امتثل ما أقوله لك، واقتص لنفسك مني، بما ضربتك وآذيتك}. فيقول الرجل محترماً مكرماً للحكم الأبوي الرحيم {معاذ الله أن أقاصصك} فيرجع عمر
(6)
إلى نفسه موبخاً لها ومؤنباً {يا عمر كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً وذليلاً فهداك وأعزك الله، تضرب رجلاً مستنصراً بك على ظالمه، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟}. هذا إسلامنا وهذا ديننا، وهذا قصصنا وهذا أدبنا، فبالله عليكم هل وجدتم مبدأ وعقيدة ورسالة أفضل من هذا وأكرم؟
الحديث:
روى الإمام أحمد في المُسنَد عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ قالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ يَا يَزِيدُ إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالإِمَارَةِ وَذَلِكَ أَكْبَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَداً مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ وَمَنْ أَعْطَى أَحَداً حِمَى اللَّهِ فَقَدِ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللَّهِ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ». أَوْ قَالَ «تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». .
إن من عرف أنه موقوف على الله سبحانه وتعالى معروض عليه وأنه لا يغني عنه حينئذ أحد من الله شيئا، وأنه سيأتي حافيا عاريا، ليس معه حميم يطاع ولا شفيع يدافع عنه، ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ وأنه موقوف على كل أعماله, من عرف ذلك عليه أن يبادر لنجاة نفسه قبل فوات الأوان، وأن يجتهد في هذه الدار لأن ينجو بين يدي الله جل جلاله من الفضيحة، فالفضيحة التي ما فوقها فضيحة هي الفضيحة في الملإ الأعلى بحضرة الملك الديان، فالإنسان حينئذ يقر على نفسه بما عمل، ولا يستطيع أحد أن ينكر شيئا من
(
أعماله ولا يستطيع أن يعتذر، ﴿ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾. وإن الولايات كلها تغر، والله جل شأنه يولي الإنسان كثيرا من الولايات ويمتحنه بها ويبتليه، فإذا صدق مع الله سبحانه، وعدل فإن الله يتم عليه نعمته ويجعلها في كفة حسناته يوم القيامة، وإذا ضيع الأمانة فإنه لا يلوم إلا نفسه لأن الحجة قائمة، عليه لا يستطيع إنكارها، ونحن جميعا سائرون إلى الله سبحانه وتعالى مجزيون محاسبون في ميزان القسط والعدل، وإن الله سبحانه وتعالى لا يظلم عنده أحد من عباده، جاء في الحديث القدسي الصحيح عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ». فاستقيموا رحمني الله وإياكم على سواء الطريق وتذكروا قول الله لرسوله ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾، نسأل الله أن يجعلنا جميعا من التائبين مع رسوله الكريم ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن
(9)
الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وآل بيته الطاهرين، وعن جميع أصحاب نبيك والتابعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم أخذل اليهود ومن والاهم، اللهم فرق كلمتهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أنزل الرعب في قلوبهم، اللهم عليك بهم يا الله, اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم أشفي مرضانا وأرحم موتانا اللهم أرحمنا إذا صرنا إلي ما صاروا إليه يا رب العالمين اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب
*****