(1)
* وُلِدَ الهُدَى
الحمدُ لله الذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِ ليُظهرَهُ على الدينِ كلُِهِ, وبعثهُ رحمةً للعالمينَ, وهُدى للمُستَرشِدينَ, والصلاةُ والسلامُ على الرحمةِ المُهداةِ, سيدنا محمد عينَ الأعيانِ ومُعجِزةِ الإنسانِ, وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده الملكَ الديان, وأشهدُ أنَّ سيدنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولَهُ أكملَ إنسان, صلى اللهُ عليهِ صلاةً دائمة عددِ كمالِ الله وكما يليقُ بكمالِهِ, وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومن تبعهُ واهتدى بِهُداهُ.
أَمّا بَعدُ، فَيا عِبادَ اللهِ:
عاش سيدنا رسول الله ثلاثاً وستينَ سنة, قضى منها أربعينَ سنة قبلَ أن يُبعثَ رسولاً, وقضى الباقيات نبياً ورسولاً وداعياً إلى الله بإذنِهِ وسراجاً مُنيراً, وهذا العمرَ النبوي المبارك لم يبلغَ سن المُعَمِرينَ, ولكنه أطول الأعمارِ أثراً باقياً وحركةً مباركةً, وأعمار الرجال لا تقاسُ بعددِ السنينَ, وإنما تقاسُ بما تثمرُ من جليلِ الأعمال وحميد الآثارِ, وقد كانت حياة سيدنا رسول الله في كُلِّ أطوارِها عامرةٌ بالخيرِ والبركة, وكان في سنيِهِ مثالاً حسناً للفضائلِ والكمالات, وكان في حربهِ وسلمهِ وفي دعوتِهِ وعبادتِهِ وفي أسرتِهِ وبينَ أصحابِهِ, وفي فصلِهِ الخصومات, وقسمتِهِ الغنائمَ, وفي كُلِّ مظهرٍ من مظاهرَ حياتِهِ مصداقاً لقولهِ تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
رحمةٌ كلَهُ حزمٌ وعزمٌ
ووقارٌ وعِصمةٌ وحياءُ
لا تحلُ البأساءُ منه عُرى
الصبرِ ولا تستخِفَهُ السراءُ
كُرِّمت نَفسَهُ فما يخطُرَ
السوءُ على قلبِهِ ولا الفحشاءُ
ظهرت على رسول الله من أول نشأته آيات الخلال الحميدة والشمائل الطيبة وكذلك كل ناشئ كتب الله أن يترقبه المستقبل السعيد تُلمح في نشأته دلائل سعادته وتقرأ في مقدمة حياته ما ينم عن نفائحه وقد كان أظهر ما ظهر على سيدي رسول الله قبل البعثة ثلاثة خصال تحلت به نفسه الكريمة وجعلته خير أهل لأن يكون مهبط وحي ربه ورسولاً بينه وبين خلقه ، فأولى تلك الخصال تباعده من أول نشأته عن الأوثان وقرابينها وحفلاتها وكل ملاهي السوء التي كان أهل الجاهلية يلهون بها. قال (مما نشأت بُغِضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر، وما هممت بشيءٍ مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته) وهكذا الإنسان الكامل إذا نشأ في بيئة ورأى الناس يولون وجوهم قبلة لا يرضاها ولا سبيل له إلى تحويلهم يربأ بنفسه عن مجتمعاتهم ويؤثر الوحدة على مجالستهم لأن كمال النفس ينأى بها عن السوء وجلسائه. أما الخصلة الثانية صدقه وقد شهد له بالصدق أعداؤه وأحباؤه، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن هرقل ملك الروم سأل عنه أبا سفيان بن حرب قبل أن يسلم أبو سفيان – هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال: لا قال هرقل: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله) ولقي رجل أبا جهل ألدّ أعداء الرسول فسأله: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا فخبرني عن محمد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط وفي هذا يقول الله تعالى لرسوله قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ, وقال النضر بن أبي الحرث لقريش المكذبينَ لرسول الله : قد كانَ فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم, وأصدقكم حديثاً, وأعظمكم أمانةً, حتى إذا رأيتم في صدغيهِ الشيبَ وجاءكم بما جاءكم بهِ, قلتم ساحر والله ما هو بساحر, أما الخصلة الثالثة فأمانته كان لقبه في الجاهلية الأمين وكانوا يستحفظونه أماناتهم ويودعونه ودائعهم. قال بن إسحاق: ما بمكة أحد عنده شيء يخاف عليه إلا وضعه عند محمد لما يعلم من صدقه وأمانته. :
من هذا يتجلى أنَّ الصادق الأمينَ كانَ من أول نشأتِهِ على استعداد خُلقي لأن يكرمَهُ الله تعالى برسالتِهِ, وكانت نفسُهُ الطاهرة بما طُبعت عليهِ من الكرم والفضائل أفضلُ منبتٍ طيب لنمو الفضائل ولذلك صادف منه التأديب الإلهي نفساً كريمة تكملت بما أدبها الله به من الأدبِ الحسن واستحق بذلك ثناءُ الله عليه بقولِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكيف نُحصى خُلقَ من أحسن الله تأديبهُ . وكما قال السُبكي في ذلك المعنى :
وأقسم لو أنَّ البحارُ جميعها
مدادي وأقلامي لها كُلَّ غوطةِ
لما جئت بالمعشارِ من آيك التي
تزيدُ على عدِّ النجومِ المنيرةِ
روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّ رسـول الله قال : ( إنَّ الله عزَّ وجلَّ كتبَ مقادير الخلقِ قبلَ أن يخلق السماواتِ والأرض بخمسين ألف سنة , وكان عرشه على الماءِ ومن جملةِ ما كَتَبَ في الذكرِ ـ وهو أُمُّ الكتاب ـ أنَّ محمداً خاتم النبيين ) رواه مسلم وفي رواية ( إني عند الله في أُمِّ الكتاب لخاتم النبيين وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينتِهِ ) رواه أحمد والبيهقي والحاكم . وفي رواية ( أنَّهُ قيلَ متى وجبت لكَ النبوة ؟ فقال : وآدمٌ بين الروحِ والجسدِ ) رواه الترمذي .
ذكر الحافظ القسطلاني في المواهب: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله جلس على المنبر فقال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به. رواه الشيخان. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نعى لنا رسول الله نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فقال: حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله أوصيكم بتقوى الله واستخلفه عليكم وأحذركم الله إني لكم منه نذير مبين أن لا تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قلنا يا رسول الله متى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله، وإلى جنة المأوى، قلنا يا رسول الله من يغسلك ؟ قال : رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى، قلنا يا رسول الله ففيما نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه فإن شئتم في ثياب بياض مصرية أو حلة يمنية قلنا يا رسول الله من يصلي عليك؟ قال: إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري هذا على شفير قبري، ثم أخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي جبريل ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت، ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا علي فوجاً فوجا فصلوا علي وسلموا تسليما وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم أنتم، ثم اقرأوا السلام على من غاب من أصحابي، ومن تبعني على ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة، قلنا: يا رسول الله ومن يدخلك قبرك؟ قال: أهلي مع ملائكة ربي . وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقي من أجل رسول الله ثلاث, نزلَ عليه جبريل, فقال: يا محمد: إنَّ الله أرسلني إليكَ إكراماً لكَ, وتفضيلاً لكَ, وخاصةً لكَ, ليسألكَ عما هو أعلم به منكَ, يقول : كيفَ تَجِدُكَ؟ فقال : أجدني يا جبريلُ مغموماً وأجدني مكروباً, ثُمَّ أتاه في اليومِ الثاني, فقال له مثل ذلك, ثُمَّ جاءه في اليومِ الثالث, فقال له مثل ذلك, ثُمَّ استأذن عليه ملكُ الموت, فقال جبريل: يا محمد هذا ملكُ الموتِ يستأذن عليك, ولم يستأذن على آدمي قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك, قال ائذن له, فدخل ملك الموت فوقفَ بين يديه, فقال: يا رسول الله: إنَّ الله عزَّ وجلَّ أرسلني إليكَ وأمرني أن أطيعك في كُل ما تأمر, إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها وإن أمرتني أن أتركها تركتُها, فقال جبريلُ: يا رسول الله إنَّ الله قد اشتاقَ إلى لقاءك, فقال فأمضِ يا ملكُ الموتِ لما أُمرتَ بهِ, فقال جبريل يا رسول الله هذا آخرُ موطئي من الأرض إنما كُنتَ حاجتي من الدنيا فقبض روحهُ .
وقال ابن المنير : لما مات رسول الله طاشت العقول: فمنهم من خُبِل, ومنهم من أقعد فلم يُطقَ القيامَ, ومنهم من أخرس فلم يطقَ الكلام, ومنهم من أضنى, وكان عمر ممن خبل, وكان عثمانَ ممن أخرس يذهبُ ويجيء ولا يستطيع الكلام, وكان علي ممن أقعد فلم يستطيع حراكاً, وأضنى عبد الله بن أنيس حتى مات كمداً. وكان أبو بكر الصديقَ رضي الله عنه جاءَ وعيناه تهملان وزفراتَهُ تتردد وغصصه تتصاعد وترتفع, فدخل على النبي فأكبَّ عليه وكشفَ الثوبَ عن وجههِ, وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله, وانقطع لموتكَ ما لم ينقطع لموتِ أحد من الأنبياء, فعظُمتَ عن الصِفةِ وجللتَ عن البُكاء, ولو أنَّ موتك كان اختيارياً لجُدنا لموتِكَ بالنفوس, أذكرنا يا محمد عندَ ربكَ ولنكن في بالك) ولما توفيَّ قالت السيدة فاطمةُ رضي الله عنها: يا أبتاهُ أجاب رباً دعاهُ, يا أبتاهُ في جنةِ الفردوسِ مأواهُ, يا أبتاهُ إلى جبريلُ ننعاهُ, وأنشدت تقول على قبره الشريف :
ماذا على من شمَّ تربةَ أحمدٍ
أن لا يَشُمُّ مدى الزمانِ غواليا
صُبت عليَّ مصائبٌ لو أنها
صُبت على الأيامِ عدنَ ليـاليـا
وأنشدَ سيدنا حسان بن ثابت :
كنت السواد لناظري
فعمى عليكَ الناظرُ
من شاءَ بعدك فليمت
فعليك كُنتُ أحـاذرُ
وكانت وفاتُهُ يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ودفِنَ يومَ الأربعاء. وروى الدارمي عن أنسٍ رضي الله عنه قال : ما رأيتُ يوماً كانَ أحسنَ ولا أضوأُ من يوم دخل علينا رسول الله المدينة , وما رأيتُ يوماً كان أقبح ولا أظلمَ من يوم مات فيه رسول الله .
***