د. محمد بدوي مصطفى
mohamed@badawi.de
هل تعرفون لماذا مدّ وزير الخارجية السوداني على كرتي يده ادبان رحلته حول أروبا طالبا "كرامة في سبيل الله" ومستجيرا بأهل الغرب؟ سوف أتطرق لهذه المسالة فيما بعد. دعوني أروي لكم ما قاله حاج التوم في تخبص المسؤولين بالحكومة عن الجلطة الاقتصادية والنوبة المالية التي حلت بالبلاد في هذه الآونة كالكابوس الفظيع، سيما بعد حلول يوليو الأسود وانفصال أراضي غابة الأبنوس عن قلب المقرن النابض.
- إنت تعال النقول ليك يا دكتور، بنك السودان ده الحاصل عليهو شنو؟
- ليه يا حاج التوم، سمعت حاجتن ما عجبتك والله شنو؟
- يا اخي ديل جننونا، كل يوم بيان وكل يومين اعلان، إنت قايل إنهم كده بطمنونا نحن الكادحين ديل؟ بالعكس والله جقلبوا بينا جقلبة شديدة خلاص يا مولانا. الواحد لو ليهو مراد، يقوم فت يسافر لي ماليزا زي ناس الإنقاذ عشان يخت شوية القريشات بتاعتو في البنك هناك قبل ما تروح حيص بيص.
- كيف تروح حيص بيص يا حاج التوم؟
- شايف البنك المركزي قال ليك إنو سعر الدولار ده السبب فيهو ناس سلفاكير. لأنهم كان عندهم أموال قارون في الشمال وكمان تعويضات نهاية الخدمة، دي كلها حولوها لدولارات عشان يشيلوها معاهم للجنوب. وإنو المشكلة حتتحل قريب لمن ناس الجنوب يفلفوا ويشيلوا عفشهم وقروشهم. والله تلقى قروشهم ديل ملاليم يا دكتور!
- يعني عليك الله يا حاج التوم الجنوبيين ديل القروش دي جابوها من وين؟ وبعدين كل مشكلة تحصل يوقعوها في أهلنا الدينكا المساكين ديل. قصة تشيب الراس، مش أكان يركزوا ويقولوا الشي ده من لخبطتنا وعدم فهمنا لمسار الاقتصاد بتاعنا؟
- والله يا ولدي ارتفاع سعر الدولار دا أخطر من انتصار عقار"!
بالله عليكم يا سادتي كيف يمكن أن يصدق المواطن الكريم مثل حاج التوم كل هذه المزاعم الواهنة؟ من جهة نسمع عن تصريحات الوزراء المتضاربة عن الحالة الاقتصادية ورجوع الأمان لاقتصاد البلد في فترة وجيزة ومن جهة أخرى يأتي إلى مسامعنا تصريحات السيد وزير الخارجية على كرتي في خلال سفرته الأخيرة؛ لقد أكد فيها انهيار وتحطم الاقتصاد في الآونة الأخيرة صراحة لا ضمنا، والشعب يعيش هذه الفاقة والفقر وقلة الحيلة كل يوم، واللبيب بالإشارة يفهم "والمسألة ما عايزة ليها درِس عَصُر". والشيء الذي يحيرنا تماما أن السيد الوزير قد طلب وبصورة واضحة "كرامة في سبيل لله" لدعم البنك المركزي عبر قروض في دفعات تصل إلى مليارات المليارات لتمكينه من مجابهة المحنة الاقتصادية التي لم تنفك في الازدياد بعد ضياع ايرادات البترول. بالله عليكم لماذا يهب الغربيون لنجدتنا ونحن قد أعلنا عليهم السيف البتار - في حملة الذقون المتتالية - على الكفار؟
- لماذا ينجدوننا من أجل عيون النيل الزرقاء التي أحمرّت تنزف دماء الغلاء، بعد أن كانت شريانه النابض الذي يجود بالخير والحياة في كل ربوع الوادي؟
- لماذا يهبون لنصرتنا في هذه المحنة ألأننا ساسة وقادة الحروب ممن يفتحون في كل شهر جبهة قتال في بقعة أخرى طاهرة ضد شعوب معدمة صمدت صمتا وصبرا صمود جبل مرّة وجبل التاكا؟
نحن نقول: اتركوا اهل الجنوب في حالهم واهتموا بالأموال الطائلة التي تتدفق في حسابات بنوك دبي ولندن وماليزيا الخ. ونقول لبعض الفضلاء من أين لكم هذا؟ ذاك معلوم ... لقد تحقق لكثير من الفئات المتطفلة على السياسة عبر الاستوزار (مصطلح جميل لعادل الباز) مكاسبا اقتصادية جبارة تنوء بحملها حسابات البنوك المذكورة أعلاه. لقد كان من الأجدر أن توظف هذه الأموال المكتسبة "بالراحة والأكل البراحة" في "انتشال اللوري من الوحل" بعد أن خَدَمتهم هذه المطية (وهي البلد السودان) في تحقيق مكاسبهم المشروعة والغير... وكما ذكر الأستاذ عادل الباز في مقال له عن الدولار، أن تلك الفئات (من طفيليات الاستوزار والاستولاء والاستوكال والاستحزاب الخ) ما كانت لتبلغ مقاصدها لولا التحاقها بعمل سياسي، بتنظيم حزبيّ فلاني، أو بحكومة ما. ويقول الباز في هذا الشأن، من المؤسف أن الاقتصاد الذي ظل الشريان الرئيس للسياسة حسب نظريات الماكرو اقتصاد، قد شهد إهمالاً فادحا وتخريباً أهوشاً لبنياته في الحقب المنصرمة... وكان السياسيون هم الأداة الرئيسة للتخريب الذي ألمّ بآلياته ونظامه. فبدلاً أن يصبح الاقتصاد قاطرة للتقدم أصبح مقطوراً على أيدي السياسة الرعناء التي يحكمها التخبط والقفز من الألف إلى الياء في لمحة ونفس. وهكذا كان بطبيعة الحال دور الأطر السياسية كأسلحة للدمار (الاقتصادي) الشامل بيّناً في تفاقم الكارثة، حتى تداعت بنيات اقتصاد البلاد التحتية، وانهارت مشاريعه الزراعية، وأفلست بنوكه وصار الوزراء يهيمون على وجوههم بعد أن بلغوا بأهل بلادهم وبالسيل الزبي، ليمدوا اليد شحذةً؛ قائلين بصوت أجش يقذف الكلم ما بين الصفاقة والحشمة – فتخرج العصارة: كرامة في سبيل الله يا محسنين!
نشر بتاريخ 29-10-2011