ظل قوم نوح يعبدون الأصنام دهرا طويلا واتخذوا آلهة يرجون منها الخير ويستدفعون بها الشر ويردون كل شئ في الحياة اليها ودعوها بمختلف الأسماء تارة ودا وسواع ويغوث وتارة يعوق ونسرا على حسب مايملي عليهم الجهل ويزين لهم الهوى فارسل الله إليهم نوحا عليه السلام وكان رجلا فتيق اللسان واضح البيان رزين العقل والراي رزقه الله صبرا على الجدل وقدرة على تصريف الحجج وبصرا بمسالك الإقناع دعاهم إلى الله فأعرضوا فأنذرهم العقاب فعموا وصموا ورغبهم في الثواب فوضعوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا ولكنه ناضلهم وجادلهم فمد لهم حبل أناته وأفرق عليهم معسول كلماته ولم يضعف في إيمانهم رجاءه ولم يدع اليأس يسلك سبيلا إلى قلبه بل اخذ يتفنن في الدعوة ويجاهد في إبلاغ الرسالة فدعاهم ليلا ونهارا وسرا وإعلانا ووجه نظرهم الى سر الوجود وابداع الكائنات :ليل داج وسماء ذات أبراج وقمر يسبح وشمس تسطع وأرض فجر خلالها الأنهار وأنبت فيها الزروع والثمار كل هذا يتحدث بلسان فصيح وينطق ببرهان صحيح عن إله واحد وقدرة فذة عجيبة.
وهكذا ظل يناضل ويقيم الحجج ويبسط البراهين حتى آمنت جماعة قليلون استجابوا لدعوته وصدقوا برسالته أما الذين طبع الله على قلوبهم فلو يؤمنوا وسبقت لهم الشقوة فلم يهتدوا قالوا:ما انت إلا بشر مثلنا وواحد منا ولو أراد الله أن يبعث رسولا لبعثه ملكا ثم ما هؤلاء الأرذال من أوغاد الناس وحثالتهم وأهل الصناعات الخسيسة والحرف الدنيئة الذين انقادوا إليك نحن أولو الفطنة وأصحاب الأذهان الصافية والأحلام الراجحة أسبق إلى الإيمان بك والاقتداء بهداك.
فأجابهم نوح :أرأيتم لو أنني كنت على بينة من ربي وحجة شاهدة بصدق دعواي آتاني رحمة منه وفضلا فعمي عليكم القصد واشتبه الأمر وحاولتم ستر الشمس بأكفكم أو طمس النجوم بأيديكم فهل أستطيع لكم إلزاما أو أملك لحملكم على الإيمان سلطان؟.
والأنبياء لكي يؤدوا رسالتهم على وجهها الكامل رزقهم الله صبرا على الإيذاء وجلدا على الخصام كما وسع في رقعة أحلامهم ومد لهم حبال رجائهم لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولا لمن كفر عذر بعد الأنبياء وسيدنا نوح عليه السلام كان من أولي العزم من الرسل مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما صابرا على أذاهم صامدا لاستهزائهم يرصد فيهم برق الأمل ويشيم منهم بارق الإيمان ولكنهم ما ازدادوا على الأيام إلا عتوا وما بلغت دعوته منهم إلا نفورا فعاد حبل الرجاء باليا ووجه الأمل أسود حالكا ففزع إلى الله شاكيا ملتجئا مستعينا في هؤلاء الذين عجزت حيلته فيهم ويكاد الأمل ينقطع في إيمانهم .
فأوحى الله إليه : (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ولما رأى نوح أن الله قد حقت كلمته وقضى وحيه أنه لن يؤمن أحد بعد وأنه طبع على قلوبهم ووضعت عليها الأقفال فلم يعودا يخضعون لبرهان او يذعنون الى إيمان نفد صبره وقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) .
فاستجاب الله دعاءه وأوحى اليه: (أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).فاتخذ مكانا قاصيا عن المدينة وأعد الألواح والمسامير وأخذ يعمل ولكنه لم ينج من سخرية القوم واستهزائهم وقال بعضهم :إنك يا نوح كنت تزعم قبل اليوم إنك نبي ورسول فكيف أصبحت اليوم نجارا أزهدت في النبوة أم رغبت في النجارة؟
وقال غيرهم :ما بال سفينتك تصنعها بعيدة عن البحار والأنهار ؟أأعددت الثيران لجرها أم كلفت الهواء حملها؟ وكنه أعرض عن استزائهم ومر كريما على لغوهم .
وانصرف الى السفينة يقيم ألواحها ويصل أجزاءها حتى استوت سفينة مكينة ذات ألواح وانتظر سيدنا نوح ما يكون من أمر الله فأوحى إليه :إذا جاء أمرنا وظهرت آياتنا فاعمد إلى سفينتك وخذ من آمن من قومك وأهلك واحمل معك من كل زوجين اثنين حتى يبلغ أمر الله.
وتفتحت أبواب السماء بالماء وتفجرت عيون الأرض وبلغ السيل الرابية ثم جاوز القيعان والربا فهرع سيدنا نوح الى السفينة وحمل ما أمر الله بحمله من الإنسان والحيوان والنبات وسارت باسم الله مجراها ومرساها :مرة هي في ريح رخاء وآونة في زعزغ نكباء والأمواج تفتح بين طياتها للكافرين قبورا والزبد يخيط لهم أكفانا حتى طوتهم الأمواج طي السر في الفؤاد .
وأشرف سيدنا نوح فوق ظهر السفينة فرأى ابنه كنعان وكانت شقوة الله قد غلبت عليه فاعتزل أباه ورغب عن دينه يخوض اللجج ويدافع الموج ويحاول أن يعتصم بحبل ينجيه أو ربوة تنقذه كان منه يدنو والغرق يقترب فرقت له كبده ولانت أعطاف رحمته وهاج موضع الإشفاق والحب فيه فناداه لعل نداءه يصل إلى مكان الإيمان من قلبه فيؤمن :الى أين يابني؟ إنك تفر من قضاء الله وقدره الى قضاء الله وقدره هلم مؤمنا فيلتم شملك بأهلك وتنجو ببدنك .ولكن هذه الكلمات لم تصل الى قرارة وجدانه ولم تجاوز شغاف قلبه وحسب انه قادر على ان يحذر المكروه ويفلت من يد القدر .
قال سيدنا نوح وقد أشجاه الهم وغلبه الحزن :يابني انه(لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ثم فصل بينهما الموج وحجز السيل ولم يعد يرى ابنه فلذة كبده وحشاشة قلبه فاعتلج صدره هما واتجه الى الله ملجأ الملهوف وغوث المكروب وقال: (رب إن ابني من أهلى) وقد وعدت ووعدك الحق أنك تنجيني ومن آمن أهلي وانت أحكم الحاكمين.
فأوحى الله اليه :يا نوح انه ليس من اهلك ولا من خاصة عشيرتك فقد سبقت له الشقاوة وحقت عليه كلمة الكفر فلا تعد اهلك الا من آمن بك وصدق برسالتك واستجاب لدعوتك هذا الذي تعده من اهلك وهو الذي وعدتك بنجاته وانقاذ حياته اما من جحد برسالتك وكذب بكلمات ربك فانه خارج عن اهلك منبوذ من شفاعتك .
وحينئذ ادرك سيدنا نوح ان العطف اذهله عن الحق والإشفاق ستر عنه الصواب وكان اولى به ان يبسط كفيه شكرا لله على ما خصه وقومه المؤمنين من النجاة وعلى ما اوقعه على الكافرين من الغرق والهلاك .فالتجأ الى الله مستغفرا من ذنبه مستعيذا من سخطه .
ولما بلغ الشوط غايته وطويت صحيفة القوم الظالمين كفت السماء وابتلعت الارض الماء ورست السفينة على جبل الجودي وقيل :بعدا للقوم الظالمين.
وقيل لسيدنا نوح :اهبط بسلام الى الأرض انت ومن آمن معك من قومك تحفكم البركة وتكلأكم العناية عناية الله.