هلكت عاد بذنوبها فأورث الله ثمود أرضهم وديارهم غخلفوهم فيها وعمروها أكثر مما عمروها وفجروا العيون وغرسوا الحدائق والبساتين وشادوا القصور ونحتوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من العيش ورغد ونعمة وترف ولكنهم لم يشكروا لله ولم يحمدوا له فضله بل زادوا عتوا في الارض وفسادا وبعدا عن الحق واستكبارا وعبدوا الاوثان من دون الله واشركوا به واعرضوا عن آياته وظنوا أنهم في هذا النعيم خالدون .
بعث الله إليهم سيدنا صالح عليه السلام وهو اشرفهم نسبا واوسعهم حلما واصفاهم عقلا فدعاهم الى عبادة الله وحضهم على توحيده فهو الذي خلقهم من تراب وعمر بهم الارض واستخلفهم فيها وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ثم نهاهم ان يعبدوا الاصنام من دونه فهي لا تملك لهم ضرا ولا نفعا ولا تغني عنهم من الله شيئا.
ذكرهم بأواصر القربى التي برطبه بهم ووشائج النسب التي تصل بينه وبينهم فهم قومه وأبناء عشيرته وهو يحب نفعهم ويسعى في خيرهم لا يضمر لهم سوءا ولا يريد بهم شرا وأمرهم ان يستغفروا الله ويتوبوا اليه مما اقترفوا من ذنب فهو لمن دعاه قريب ولمن سأله مجيب ولمن أناب إليه سميع.
صمت منهم الآذان وغلفت القلوب وعميت الابصار فانكروا عليه نبوته وهزئوا بدعوته وزعموا له انها نابية عن الحق بعيدة عن الصدق .
حذرهم مخالفته واعلن فيهم رسالته وذكرهم بما اسبغ الله عليهم من نعمه وخوفهم بأسه وبطشه وابان لهم انه لا يقصد من وراء دعوته الى نفع ولا يطمع في مغنم او يتطلع الي رياسة وهو لم يسألهم أجرا على الهداية وانما أجره على الله رب العالمين .
آمن به بعض المستضعفين من قومه اما الملأ الذين استكبروا فأصروا على عنادهم وتمادوا في طغيانهم واستمسكوا بعبادة أوثانهم قالوا له :انك قد خولطت في عقلك وضاع صوابك وما نظن الا ان احدا سلط عليك شيطانه فاصبحت تهذي بما لا تعرف وتنطق بما لا تفقه :فلست الا بشرا مثلنا واما انت بأشرفنا نسبا او افضلنا حسبا او اوسعنا غنى وجاها وفينا من هو احق منك بالنبوة واجدر بالرسالة فما حملك على انتهاج هذة الطريق وسلوك تلك السبيل الا رغبتك في تعظيم نفسك وتطلعك الى الرياسة على قومك .
حاولوا صده عن دينه وصرفه عن دعوته وزعموا له انهم ان اتبعوه حادوا عن الصراط المستقيم وخالفوا الطريق القويم فاعرض عن بهتانهم ولم يستمع الى غوايتهم وقال : يا قوم ان كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ثم اتبعت طريقكم وسرت في سبيلكم وعصيت ربي وآتاني منه رحمة فمن يمنعني من عذابه او يعصمني من عقابه ؟ان انتم الا مفترون.
فلما وجدوا منه استمساكا برأيه واعتصاما بحقه خاف المستكبرون من قومه ان يكثر تابعوه ويعظم ناصروه وعز عليهم ان يكون المرشد للقوم والموئل عند اشتداد الخب والكوكب المنير اذا ادلهم الامر فينصرف الناس عنهم ويفزعون اليه في كل شأن ويطرقون بابه كلما حزبهم امر ولا شك انه سيهديهم الى ما يقربهم الى الله وارادوا ان يظهروا للناس عجزه فطلبوا منه ان يأتيهم بآية يتبينون بها صدق دعوته ومعجزة ظاهرة تصدق رسالته .فقال لهم:هذة ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فذروها يأكل في أرض الله.
لم ير الناس قبلا ناقة تستأثر يوما بمائهم ولم يعهدوا غيرها يكف يوما عن شربهم ولا شك ان سيدنا صالح قد عهد فيهم إصرارا على الكفر واستمساكا بالباطل وعلم ان المنكر يفزعه ظهور حجة خصمه ويخيفه وضوح برهانه بل يحرك كامن غيظه ومستور حقده قيام شاهده وقوة آيته لذلك خاف إقدامهم على قتلها وحذرهم الفتك بها فقال لهم : (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب).{هود:64}
مكثت الناقة بينهم زمنا تأكل في أرض الله ترد الماء يوما ولا شك ان قيامها قد استمال اليه كثيرا من قومه اذ استبانوا بها صدق رسالته وأيقنوا بصحة نبوته فافزع ذلك المستكبرين من قومه وخافوا على دولتهم ان تبيد وعلى سلطانهم ان يزول فقالوا للمستضعفين من قومهم وهم الذين أشرق نور الإيمان في قلبوبهم فعمرت به صدورهم وانصاعت اليه أفئدتهم : اتعلمون ان صالحا مرسل من ربه ؟فقالوا :انا بما ارسل به مؤمنون .فلم تلن قناعة القوم ولم يخففوا من غلوائهم بل اعلنوا كفرهم وصارحوهم بتكذيبهم.
وبقي القوم يدفعهم الشر وتمنعهم الرهبة فاستعانوا بالنساء يبذلن ما يملكن من ذلال واغراء ويغرين بما فيهن من جمال والمرأة اذا أمرت كان الرجال طوع أمرها واذا تمنت تسابقوا الى تحقيق امنيتها فهاهي ذي صدوق بنت المحيا ذات الحسب والمال تعرض نفسها على مصدع بن مهرج ان هو عقر الناقة آية السيدنا صالح البينة وحجته البالغة وتلك عنيزة العجوز الكافرة تجاذب قدار بن سالف اليها وتعرض إحدى بناتها لا تطلب اليه بذلا ولا تسأله عطية او مالا الا عقر الناقة التي تستميل القلوب وتشعل جذوة الإيمان .
فصادف هذا الإغواء هوى في نفسهما ورغبة في فؤادهما وزادهما بأسا وقوة وأفااض عليهما اقداما وجرإة فسعيا بين القوم يلتمسان من يؤازرهما فاستجاب لهما سبعة آخرون وانطلقوا الى الناقة يرصدونها وخرجوا يرقبونها فلما صدرت من وردها ورجعت عن مائها فرماها بسهم انتظم عظم ساقها وابتدرها قدار بن سالف بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت على الأرض ثم طعنها في لبتها فنحرها وازاحا عن كاهلهما هما ثقيلا وحملا عظيما ورجعا الى القوم يزفان اليهم البشرى وستقبلهما الناس كما يستقبل القائد الظافر او الملك الفاتح وهللوا لمقدمهما ونسجوا لهما أكاليل المدح وأضفوا عليهما جميل الثناء.
عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وكشفوا عن ذات انفسهم واستخفوا بوعيده فقال لهم سيدنا صالح :قد حذرتكم ان اصبتموها بأذى او مسستموها بسوء ولكنكم قد اجترحتم الذنب واقترفتم الإثم فتمتعوا في داركم ثلاثة ايام يأتيكم بعدها العذاب ويحل عليكم في نهايتها العقاب ذلك وعد غير مكذوب.
ولعله قد ضرب لهم ذلك الميعاد ترغيبا لهم في الإنابة الى الله وحثا لهم على الاستماع الى دعوته ولكن الشكوك مازالت متأصلة في نفوسهم والأوهام متسلطة على أفئدتهم فلم تغنهم النذر ولم يثوبوا الى رشدهم .
ولكنهم تمتدوا في الضلا واستسلموا لنوازي الشر واجتمع نفر من قومه وتقاسموا على ان يتسللوا اليه في جنح الظلام ويباغتوه واهله والناس نيام فيوقعوا بهم من غير ان يراهم احد فاجمعوا امرهم بينهم على ان يكون ذلك سرا مكتوما .
بيتوا له الشر واضمروا له ولاهله القتل ظنا منهم ان ذلك يعصمهم من العذاب وينجيهم مما سيحل بهم من عقاب ولكن الله لم يمهلهم بل أحبط مكرهم ورد اليهم كيدهم ونجاه مما ارادوا به وانقذه والذين آمنوا معه من العذاب وانزل بالكافرين عقابه تصديقا لوعده ومظاهرة لنبيه (فأخذتهم الصاعقة بظلمهم){النساء:153}(فاصبحوا في ديارهم جاثمين){هود :67}.
ولم يمنعهم ما شادوا من قصور شامخة وما جمعوا من اموال وافرة وغرسوا من جنات واسعة ونحتوا من بيوت آمنة.
وراى سيدنا صالح ما حل بهم إذ اصبحت جثثهم هامدة وديارهم خاوية فتولى عنهم والأسى يملأ نفسه والحسرة تقطع نياط قلبه.