رؤى حول الوسطية الإسلامية ( الحلقة الأولي)
بقلم / الزبير محمد علي
صحيفة أجراس الحرية
الغوص في بحر الوسطية يكلف المجتهد والكاتب وقتا طويلا. ربما يرجع ذلك إلي تعقيد مفهوم الوسطية خصوصا إذا أردنا اختباره علي ارض الواقع في مجالات الحياة المختلفة.
لذلك حرصت عند كتابة هذه المقالة أن اطلع علي مفهوم الوسطية عند عدد من المفكرين والمفسرين والكُتاب ، وأمضيت في هذا السبيل وقتا لم أمضه عند الكتابة في أية موضوع آخر.
فالوسطية واسعة البطن، ممتدة الأطراف، متعددة الطرح في طاولة الشارع الإسلامي، وفي حلبة الفكر الإسلامي المعاصر
إن التيارات الإسلامية علي اختلاف أشكالها ومسمياتها تري أن طرحها ملتزم بالوسطية، ويرجع ذلك إلي ثمة نص قراني يصف الأمة الإسلامية بأنها امة "وسط" قال تعالي ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
ولكن هل هذا يفيد بأن الوسطية ثوبا فضفاضا يتلفح به القاصِ والداني؟
إن إماطة اللثام عن هذا السؤال يستدعي تواضع التيارات الإسلامية علي تعريف محدد لمفهوم الوسطية في الإسلام حتى لا تكون النتيجة انقسام الوسطية إلي "وسطيات" كما أشار الأستاذ عبد الرحمن الحاج بقوله
إن الوسطية لغويا هي وسط بين أمرين ، وهي لم تغادر فضاء الدلالة اللغوية، لذلك حدد كل شخص مسافة وسطه حسب مقاييسه الخاصة واسقط عليها مفهومه عن المصطلح ؛ كانت النتيجة انقسام الوسطية إلي "وسطيات" مثل "وسطية مستنيرة" وأخري "مظلمة").
وتعليقي أن هذا الرأي ينطوي علي جانب كبير من الصواب؛ ذلك أن الاتساع في معاني المصطلحات والمفاهيم استشري بصورة كبيرة في ميدان الفكر المعاصر. وأصبح لا ينطبق علي الوسطية وحدها ؛ بل يتسع ليشمل الاشتراكية ؛ والعلمانية، والديمقراطية . ويؤكد ما ذهبنا إليه أن الباحث لا يجد تعريفا واحدا للاطروحات أنفة الذكر- مثلا - هناك اشتراكية "علمية" وأخري" ديمقراطية" وإذا تأملنا فيهما لوجدنا اختلافا جوهريا قد يصل إلي درجة التناقض بينهما.
وليس في الأمر عجب أن تقع الوسطية في هذا الشرك؛ علي الرغم من عدم وجود تناقض بين حقيقة الإسلام والوسطية.
إن الذي يسبح في الحوض النبوي يلمس تلك الحقيقة . عن جابر بن عبد الله قال:كنا عند رسول الله "ص" فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط وقال :"هذا سبيل الله" ثم تلا هذه الآية (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)
وربما يسال سائل سؤالا مفاده : إذا كانت حقيقة الإسلام هي الوسطية، فما الذي جعل التيارات الإسلامية تختلف حولها ؟.
أظن أن الأسباب التي أدت إلي انقسام المسلمين إلي فرق، وأحزاب، ومدارس، وطوائف رغم وجود كتاب واحد ، ورسول واحد ، وقبلة واحدة هي التي أدت إلي اختلاف التيارات الإسلامية حول الصياغة التطبيقية لمنهج الوسطية وان كانت لا تختلف حول المبدأ العام . وأشير هنا إلي رأي د/ سليمان العودة حيث يري أن من الأفضل أن نفرق بين ثلاث مستويات:
الأول: الأيمان بمبدأ " الوسطية" باعتباره قاعدة شرعية ضرورية.
الثاني: فهم القواعد الشرعية المتعلقة بهذه المبادئ الثبوتية
الثالث: الفهم الخاص المبني علي الاجتهاد في أحكام معينة
في تقديري أن المستوي الأول المذكور أنفا لاختلاف حوله فقد دلت عليه قطعيات الوحي، وأكدته السنة النبوية
الشريفة. قال نبي الرحمة "ص"(إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) وذكر النبي"ص" في مقام أخر قوله :
(إن الرفق لا يكون في شي إلا زانه ولا ينزع من شي إلا شانه ).
أما المستويين الثاني والثالث فالاختلاف فيهما وارد ؛ ذلك أن التباين في وجهات النظر وتقدير الأشياء أمر طبيعي ، ويستحيل أن يتساوى الناس في ملكاتهم وقدراتهم العقلية ؛ ولكن الممكن هو أن تتواضع التيارات الإسلامية على مقرن يمثل اتفاق حد أدنى حول مفهوم "الوسطية" في الإسلام ولكن كيف نحقق هذا الهدف ؟
إن المؤتمرات يمكن أن تحل هذا اللغز، لاجرم أن الاهتمام بالنقاش حول الوسطية أضحى في تنام مستمر. ففي عام 2005عقدت وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف بالكويت بالتعاون مع الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية مؤتمرا بعنوان "الوسطية منهج حياة".
وفي لندن عام 2006 أقيم مؤتمرين حول الوسطية الأول بعنوان "نحن والآخر- الحوار مع الأديان الاخري" والثاني عن "توضيح صورة الإسلام لدي الغرب " وفي ذات العام وبالعنوان عينه أقيم مؤتمرا عن الوسطية في واشنطن.
إن هذه المؤتمرات يجب أن توجه نحو إحداث حوار يعمل علي وضع معايير وأسس محددة للوسطية باتفاق الجميع ، بحيث أن من يخرج عليها يعتبر خارج نطاق المنهج الوسطي.
واعتقد أن إغفال هذا الجانب سيفتح بابا واسعا أمام المرجفين بالشماتة علي الفكر الإسلامي بعبارات علي شاكلة "الوسطية مفهوم هلامي" كما شمت آخرون قبلهم علي الصحوة الإسلامية ووصفوها "بالفجر الكاذب".
فهل نحن مستعدون لقفل الباب أمام هذه الشبهات التي تحيط بالوسطية بالتوافق علي تعريف محدد لها؟
إن هذه المقالة لا تعني بالإجابة علي هذا السؤال ؛ فهذا يتوقف علي استعدادات المفكرين ، والعلماء، والمدارس الإسلامية حول هذا التوافق المنشود ؛ وهو أمر ستكشف عنه مقبل الأيام.