الحركات الجهادية بين المراجعات النقدية والرسائل التهديدية..
بقلم/ الزبير محمد علي
صحيفة صوت الأمة 2010
العنف هو سلوك عدواني بغيض لا تقره ملة أو دين ، ولا تحده جغرافيا أو وطن ، ولا تُؤطرله ثقافة بعينها ، ولا تُبشر به حضارة محددة ؛هذا ما نطق به التاريخ الانساني.
ان صفحات التاريخ البشري لم تعرف مجتمعاً خالياً من العنف ، بل لا نبالغ ان قلنا أن العنف ُولد قبل مجئ الإنسان إلى الأرض ؛ ذلك أن احتجاج الملائكة على إستخلافه ، وحوارهم مع خالق الكون عز وجل يؤكد هذه الحقيقة قال تعالي : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون) البقرة 30.
مما لا شك فيه أن النفس البشرية بنزعتها الطينية تُشجع على السلوك العدواني ؛ ولهذا جاءت الاديان السماوية لتسموا بميزان العلاقة الروحية مع خالق الكون ، ولتُعزز أسلوب تعامل البشر فيما بينهم ، ولُتبشر بعلاقة صحية بين الإنسان والطبيعة من حوله.
وللأسف فان الانسان كثيراً ما يخرج عن الضوابط الدينية ، حتي الذين يدعَون التزامهم بالسلوك الديني..
لقد عملت قوي الهيمنة الدولية على ترسيخ مفهوم الربط بين السلوك العدواني البشري وبين الإسلام ، واستخدمت في سبيل هذا الربط مفكرين ، وكُتاب تسندهم آلة إعلامية ضخمة ، وتقف ورائهم قوى دينية ، واجتماعية ، وسياسية ، نافذة في المجتمع الغربي .
لا ريب أن هناك عوامل قادت الى هذا الربط ؛ تلك العوامل هي أن سلوك بعض المسلمين اتخذ وسيلة العنف سبيلاً لكبح جماح الهيمنة الدولية بألوانها الثقافية ، والسياسية ، والإعلامية ، والأمنية .
الحركات الجهادية بمفهومها الحديث نشأت في النصف الأول من القرن العشرين ، وإرتبطت هذه النشأة بركود العمل الإسلامي في مجالات الفكر ، والسياسة ،والإقتصاد ؛ في مقابل هيمنة الإستعمار خارجياً ، وسيطرت الإتجاهات الماركسية والقومجية واللبرالية في التعبير عن الرأي العام العربي داخلياً .
الجماعة الإسلامية في مصر ، وجماعة الجهاد التي لها أوردة شريانية في عدد من الأقطار الإسلامية نشأت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي مواصلةً لهذا الاحتجاج ، ورفضاً للإستبداد السياسي ، ومعارضةً للظلم الإجتماعي الذي شهدته الساحة العربية ، وتطلعاً لإقامة خلافة على النهج المصطفوي في الدول الإسلامية
وبالرغم من أن بداية نشاط هاتين الجماعتين كانت في شكل جمعيات دينية تقوم ببعض الأنشطة الثقافية والاجتماعية ، الا أنهما مالبثتا قليلاً حتى شكلتا جناحاً عسكرياً يهدف الى قلب الطاولة على النظام السياسي القائم في مصر .
وبحسب كتاب (مراجعات الجهاديين) للأستاذ محمد صفر؛ فإن أهم الأهداف والمرتكزات الفكرية لتلك الجماعات هي :
* إقامة خلافة مصطفوية في البلدان الإسلامية
* إحياء فريضة الجهاد الغائبة - ويقصد بالجهاد هنا القتال والمواجهة بالدم ، وعدم الإقتصار على الوسائل السلمية
* معاملة الطوائف الإسلامية الممتنعة عن الإلتزام ببعض الشرائع بالقتال .
* اعتبار السلطان الذي يقف في وجه دعوتهم بالعدو القريب ويرون حتمية المواجهة معه .
إن بعض هذه المرتكزات الفكرية مشروعة وإن اختلفنا معها في الوسائل ، ولكن السؤال الذي يعصف بالذهن هو : من أين أتى هؤلاء بهذه الأفكار المتطرفة التي لامرجعية لها في الدفاتر الإسلامية ؟
إن البحث عن فك طلاسم هذا السؤال وإماطة اللثام عنه ، يجب أن يلتزم الإحاطة بفكر الشيخ أبوالأعلي المودودي ، والأستاذ سيد قطب ؛ ولهذا لأجد مناصاً لتوضيح الصورة أمام القارئ سوي أن أطوف طيفاً عابراً في ظلال أفكار هذين الأستاذين
أبوالأعلي المودودي :
يري الدكتور محمد عمارة أن أبا الأعلي المودودي انفرد من بين المحدثين ببعث قضية تكفير المسلم التي ظهرت في التاريخ الإسلامي لأول مرة مع الخوارج .
وفي سياقٍ آخر يؤكد ذات المعنى ، ماجاء في بعض كتب المودودي حينما قال : " ان في المسلمين أنفسهم - دع عنك غير المسلمين- تسعاً وتسعين في المائة ، بل أكثر من ذلك يدعَون أنفسهم " مسلمين " ويعبرون عن دينهم بكلمة الإسلام ولكنهم لايعلمون ماهو المسلم ، وما هو المفهوم الحقيقي للإسلام .
فإسلام هؤلاء في نظر المودودي هو " إسلام من الناحية القانونية " فقط ، ولكنه " ليس الإسلام عينه ، وليس جوهر الإسلام " . كتاب الإسلام وضرورة التغيير للدكتور/محمد عمارة
سيد قطب :
لا تختلف نظرة سيد قطب كثيراً عن نظرة المودودي ، وإن كان سيد قطب أشد تطرفاً - مثلآ في حديثه عن المجتمع الإسلامي المعاصر- قال قطب : " يدخل في اطارالمجتمع الجاهلي ؛ تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها " الإسلام" ، وأضاف قائلأ : (ان موقف الإسلام من هذه المجتمعات يتحدد في عبارة واحدة : إنه يرفض الإعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها ومشروعيتها في إعتباره ). " المرجع السابق" .
ان قراءة هذه الأفكار بمعزل عن الواقع الذي عاش فيه قطب والمودودي ُيعد ضرباً من ضروب العبث ؛ ذلك أن المودودي رأي في ديمقراطية الأغلبية الهندوكية قضاءاً على ذاتية الإسلام وتميزه الحضاري .
أما سيد قطب ؛ فإن ظروف القهر والبطش التي واجهها أثناء حكم المشروع القومجي في مصر ، ومالحق ذلك من تهديد للمشروع الإسلامي كان له أثرٌ بالغ في بلورة تلك الأفكار .
وبصرف النظر عن الملابسات والظروف التي شكلت أفكار هذين الأستاذين ؛ فإن شباب هذه الجماعات تلقفوا تلك الأفكار بصورة أشبه بــ " تعامل المريد مع الشيخ " ، دون أدنى مراجعة لها أو لظروفها ، ودون عرضها حتى على ميزان الشريعة الإسلامية .
واذا صرفنا النظر عن الماضي وانتقلنا للحاضر ؛ فإن المبادرة التي أطلقتها الجماعة الاسلامية في مصر ، وجماعة الجهاد في مطلع القرن ال21 عن وقف جميع أشكال العنف ، ووقف البيانات المحرضة عليه ، وماتبع ذلك من مراجعات نقدية تُغيرفيه هذه الجماعات مواقفها وأفكارها ، يُعد تحولاً في إتجاه تعزيز العمل الإسلامي المدني
لقد كان موقف الساحة الفكرية في العالم العربي من هذه المراجعات متبايناً ، فالبعض إعتبرها خطوة تصحيحية تصب في قالب الفهم الصحيح للإسلام ، والبعض الآخر إعتبرها مجرد صفقة بين الحكومة المصرية وقيادة الجماعة .
ومهما قيل عن هذه المراجعات ، فإن الساحة الإسلامية يجب أن تستقبلها بصدرٍ رحب ، وأن توفر لها الدعم اللازم للقضاء نهائياً على ظاهرة التطرف في عالمنا الإسلامي والعربي .
وإذا انتقلنا إلى مرحلة أكثر تقدماً ، وهي مرحلة تأثير هذه المبادرة على تجفيف منابع العنف في الساحة الإسلامية ، نجد أن لها أثراً لا يُستهان به في كبح جماح التطرف نسبياً في الساحتين الإسلامية والعربية .
ولكن مادامت الأمة الإسلامية تعيش وسط قنابل موقوتة ، وسط إحتلال أجنبي يُمزق جسدها ، وإستيطان صهيوني يغتصب أرضها ، وإستبداد سياسي ينخر عظامها ، وإختلال توازن إجتماعي يكاد يقضي على ما تبقى منها .
مادامت كل هذه العوامل موجودة ، فان العنف سيظل باقياً ، كما سيظل التهديد الأمني للغرب مستمراً .
وهذا ما حوته رسالة بن لادن الأخيرة للرئيس أوباما ، وما أكدته محاولة تفجيرالطائرة الأمريكية في دترويت، .
ولكن مع هذه الصورة المتشائمة التي يُريد أن يرسمها تياري " الغزاة – والغلاة " على حد - تعبير السيد الإمام - ؛ فإن التطلع لحوار عاقل وعادل لمسيرة العلاقة بين الإسلام والغرب يٌعد هماً شاغلاً للتيارات المستنيرة من الجانبين .
فهل يستطيع هذين التيارين في مقبل الأيام إمتلاك ناصية النفوذ في العالمين الإسلامي والغربي لتحقيق علاقات دولية عاقلة وعادلة بين الدول الإسلامية والغرب؟ .
هذا ما لا تستطيع هذه المقالة الاجابة عليه ، ولكن المستقبل كفيل باماطة اللثام عنه