أثر الانفصال على الهوية السودانية
.د. حسن مكي محمد أحمد
الراي العام
يمكن القول بأن الإعلان عن الهوية السودانية، أو بروز الهوية السودانية
في شكل صيرورة سياسية، أو اجتماعية أو روحية فكرية، عملية معقدة
ومركبة، ومع أنه يمكن أن تكبت الهوية إلا أنها تنداح، وتعبر عن نفسها،
في رمزيات وأشكال مختلفة، ولأسباب كثيرة فإن كثيراً من مكونات العالم
الإسلامي تكبت هويتها، والمثال على ذلك إن كثيراً من المحجبات يتخلين
عن الحجاب في اوروبا، ليس بسبب قناعتهن، ولكن بسبب الخوف
والمصانعة وأحيانا من باب الأمن أو (إلاًّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)
النحل(106) ولعل أكبر مثال على قضية المصانعة في قضية الهوية، هو
مسلمو اثيوبيا الذين على اغلبية عددهم إلا أن وزنهم السياسي
والاقتصادي، كان لا يتناسب مع حجمهم، وكان كثير منهم يخفي إسلامه،
ولكن الآن، أصبحت اثيوبيا كأنها دولة إسلامية، حيث برز الحجاب في
الجامعات، وكثرت المساجد، كما أخذ المسلمون وضعهم في حركة
السياسة، والإدارة وشيء من ذلك يحدث في نيجيريا .
بل أن مصر الخمسينيات، لجأت إلى التخفيف من الهوية الإسلامية للمجتمع
المصري، وعملت السينما الغربية والمجلات الغربية كمجلة «الكواكب»
وغيرها، لإبراز المرأة في إطار الإنوثة الغربية، ولكن ما لبث كل ذلك أن
تبدد وبرزت الهوية الإسلامية المجتمعية المصرية، على ضغوط الدولة،
وأصبح الأصل هو الحجاب في المكاتب، وفي الحركة المجتمعية.
أما في السودان ظل صراع الهوية يدور حول موقف الدولة من الهوية،
وهل الدولة محايدة؟ أم إنها تتبنى اطروحات الأغلبية، واطروحات الثقافة
السائدة، وإلى حين من الدهر، كانت لغة التعليم بالأغلبية هي اللغة
الانجليزية، والمرافعات في المحاكم تدور باللغة الانجليزية، والقوانين
والتشريعات مقننة بالانجليزية، ولكن تغير الحال وأصبحت اللغة العربية
هي اللغة السائدة، ولغة الخطاب الرسمي، وظل الجنوب يمثل اَداة ضبط
إيقاعات الهوية في الشمال، على الأخص في بعديها السياسي،
والتشريعي، وكان الجنوب يحتج على الشمال بأنه يهمل بعده الافريقي،
لمصلحة بعده العربي، كما كان يرفض إعطاء أولوية لمطلوبات الثقافة
الإسلامية، بحجة المواطنة، وبحجة أن ذلك يجعلهم مواطنين من الدرجة
الثانية .
علماً بأن الصراع لم يكن بين الثقافة الإفريقية، والإسلامية، وإنما كان
يدور بين الثقافة الإسلامية، والعولمية بمحدداتها اللغوية، والروحية، أي
ثقافة العولمة بلغاتها اللاتينية (إنجليزية- فرنسية) ومحدداتها الأخرى
الاجتماعية، والسياسية، والروحية الفكرية، وبمعنى اَخر فإن ضبط الهوية
الإسلامية، كان يقتضي التوظيف للجنوب، ليس لإبراز العادات والتقاليد
والاعراف الجنوبية، وإنما لفتح المجال لمكونات الثقافة الغربية، العولمية،
علما بأن الجنوب فيه المسلم الذي ينافح عن الهوية الإسلامية السودانية،
ويتمثلها،وفيه النصراني المعاكس لذلك، وفيهم غير المكترث بماَلات
قضايا الهوية، والمحددات الثقافية والروحية الأخرى .
سواء انفصل الجنوب أو اتصل فإن حركة الثقافة الإسلامية، وتجلياتها
بالهوية في اتجاه الصعود، حتى وإن حدثت نكسة وقتية في جنوب
السودان، نتيجة الحسابات اللحظية، ويمكن قراءة ذلك من خلال تقبل
الجنوبيين للغة العربية، فقبل عقود كانت القلة تتكلم اللغة العربية في
جنوب السودان، ولكن اليوم أصبحت اللغة العربية هي لغة التفاهم السائدة
بينهم، كما أن الأزياء السودانية، خاصة وسط المرأة الجنوبية أخذت
تكتسب أراضي جديدة في جنوب السودان، كذلك الزواج، والختان
والموت، وغيرها وغيرها.
أما في شمال السودان فإن مد الثقافة الإسلامية يتسع، ويكفي أنه ذات يوم
كانت الكنائس أكثر من المساجد في قلب الخرطوم، فإذا بعدد المساجد في
الثلاثين سنة الاخيرة يتضاعف أضعافاً مضاعفة، ويصبح المسجد يطبع
بهيئته قلب الخرطوم واطرافها، بل إن المساجد إتسعت حتى تجاوزت
وافاضت عن الحاجة في بعض المناطق، كما أن أعداد المصلين تضاعفت
أضعافا مضاعفة، كما أن سنة الزواج أصبحت الأصل حتى وإن تدثرت
بمسميات مختلفة، مثل الزواج العرفي، وزواج المسيار وغيرها .
أما على مستوى الدولة، فقد أصبح اَداء الزكاة من الفرائض المألوفة، كما
أصبح الخطاب الديني جزءاً من خطاب النخبة السياسية, والاقتصادية
والاجتماعية، كما توسعت الجامعات الإسلامية، وكليات اللغة العربية،
والثقافة الإسلامية، كما تم تعريب مقدر للكتاب الجامعي، والخطاب
الجامعي، و تعريب القوانين والتشريعات، بل وأصبحت مستمدة من الثقافة
الإسلامية وكذلك دنيا المال والاقتصاد.
لم تكن هذه التحولات ميسورة فقد تمت في ظل تنديد داخلي وخارجي
وضغوط وعقوبات.
ومؤكد أنه إذا انفصل الجنوب أو اتصل، فإن خط الهوية السامية سيكون
في اتجاه الصعود، وإن انفصل فإن مسلمي الجنوب سيبرزون ككيان له
إشكالاته، وربما يجدون أن وضعهم وضع المواطن من الدرجة الثانية،
مما يدخلهم في مجابهات، ومن المؤكد إنهم سيجدون المدد من الشمال،
مما قد يؤدي إلى توترات وصراعات هنا وهناك، ولكن هذا أيضا سيصب
في محفظة دفع المد الإسلامي شمالا وجنوبا، كما أن البيئة الخارجية
للسودان ستكون مواتية في إتجاه الثقافة الإسلامية، لأن خط الهوية
الإسلامية ينمو في إثيوبيا وإريتريا والصومال وكينيا ويوغندا وتشاد،
وكلها من الدول المؤثرة على تكييف قضايا الدولة والهوية في السودان .
وسواء اتصل الجنوب أو انفصل، فإن علاقات التكامل ما بين السودان
والدول العربية وعلى الأخص مصر والسعودية ستزداد، وبما أن هذه
الدول نقحت فيها الهوية الاجتماعية تماماً، على تحالفاتها السياسية
والاقتصادية، شرقاً وغرباً، فإن الكيان الشمالي سيجد نفسه غير متخلف
عن تصاعد مد الهوية شمالاً وشرقاً، وبذلك فإن الضغط الذي يمثله
الجنوب في إتجاه تشكيل الهوية السودانية، أو ضبطها أو تغيرها لن يكون
فاعلاً، بل ستنقلب القضية بحيث يمكن للشمال أن يكون ضاغطا لضبط
إيقاع الهوية الجنوبية، حسب مطلوبات الكيان الإسلامي الجنوبي، كما أن
حركة المد الإسلامي في الأغلب ستجد نفسها متناغمة ومتاَزرة مع بروز
تيارات المد الإسلامي في العالم العربي، والإسلامي، ودول الجوار، على
الأخص تشاد واثيوبيا، وبذلك فإن الضغط العالمي على السودان لن
يجدي، لأنه سيجد الظاهرة ظاهرة عامة، ويصبح القبول بها والتعاطي
معها أجدى من مجابهتها وكبتها.
وبذلك فإن مقولة أن العالم يتجه في اتجاه القبول بالآخر، وفي إتجاه
التعددية الثقافية ؛هو الأقرب، فإن تجلي الهوية السودانية في إتجاه الثقافة
الاسلامية، ومطلوباتها، ومعطياتها سيظل في خط الصعود.