من الأمراض النفسية التي انتشرت بشكل كبير مؤخرا ، الاكتئاب النفسي ، والذي أبرزتة بعض الاحصاءات العالمية على أنة مرشح لأن يكون أحد الأسباب الرئيسية لانتشار ظاهرة الانتحار .
في السودان لاتوجد احصاءات دقيقة وانما مؤشرات يمكن جمعها من المستشفيات النفسية والعيادات ومن الملاحظات العامة في حقل المهنة والتي كلها تؤكد ازدياد نسبة المصابين بالاكتئاب عاما بعد عام .
مدخل قصصي يحكي الواقع
ماذا حدث " لحسام " ؟
بدا كأنما وجهه بلا تعابير ، أمه تندهه بعلو صوتها مرات ومرات وهو لا يستجيب وكأن أذنية أستقالتا عن وظيفة السمع ، هرعت مسرعة نحوة وانتهرته بغضب " انا مش بنادي فيك مابترد مالك " ، " هاك أمشي جيب زيت من الدكان " . ومدت له الجنيهات السودانية البئيسة ، وببطئء شديد مد يدة وهو مايزال ممددا على الفراش ، وأخذ منها المبلغ المالي ، وهي تستعجب في بطئه الغير عادي ، عندما أنزل أرجلة على سطح الأرض واستقام أستعدادا للذهاب ، كانت هي قد وصلت المطبخ والحيرة تملأ قلبها . قالت لجارتها التي تشاطرها أعمال المطبخ " الولد ده مابعرفو مالو ؟ يختي بقى مازي زمان قلبي ماكلني عليو " ، قدر ما أناديو مابرد لي زمان كان حاجات الدكان دي براو بمشي يجيبا ، وبجيني من الصباح يقول لي يا أمي عايزة شنو أجيبو ليك ، هسه الا أدفروا دفير" . فترد عليها جارتها يمكن زعلتي في حاجة ، فتجيب الأم " بري يختي مافي أييي شي ، الغريبة أصحابو برضو بشكو منو قالو بقى ماقعد يلعب معاهم زي زمان .
في هذة الأثناء دخل " حسام " يحمل في يدة باقة الزيت ويضعها في المنضدة القريبة من باب المطبخ دون أن يدخل ويلقي التحية على جارتهم التي كان دائما يناديها "خالتي نادية " ، تستعجب نادية وتندهه محمد محمد ازيك فلا يعيرها اهتماما بل بخطوات بطيئة جدا يواصل سيرة الى غرفته ويلقي بنفسة في الفراش بأهمال . تأخذ والدتة باقة الزيت وتكتشف أن محمد لم يحضر "باقي القروش " ، وتقول لنادية "بقى طوااااالي بنسى باقي القروش في الدكان دي أصو ماكان بسويها " .
حسام مستلقيا على فراشة والدموع الغزيرة تتساقط فوق خدية ، وعيناه مثبتتان في سقف الغرفة بنظرة ساهمة ليست ذات معنى . عندما فرغت أمة وجارتهم " نادية " من تجهيز الغذاء بدأت عملية الاستنفار لكل أفراد الأسره كي يحضروا لتناول الوجبة ، فدخلت سلمى الصغيرة غرفة محمد أخوها وندهته "محمد قالوك الغدا " ، لم يستجب لها بابتسامته المعهودة فكررت كلمتها وهي خائبة الاحساس وهذه المره علا صوتها : يامحمد الغدااااا، حينها صرخ بوجهها وانتهرها بعلو صوتة قائلا " ماعايز زفت معاكم ومافي زول تاني يتكلم معاي ، غوري من وشي " ، هلعت سلمى هلعا شديدا وكادت تختنق وتسمرت في مكانها ، لم ترى أخوها الحبيب في هذا المنظر من قبل ، باكيا شرسا عنيفا بائسا في وقت واحد عدائيا تجاهها وهي التي كانت دلوعته الصغرى . هرولت كل الأسرة نحو الغرفة بعد سماع الصراخ وبدلا من أن تجتمع حول المائدة اجتمعت حول محمد ، وبادرت أمة بالسؤال على عجل وهلع مالكم في شنو ؟ وأقتربت خالتي نادية من محمد محاوله احتوائة وضمه اليها الا أنه أبعدها عنه بطريقة عنيفه كادت أن توقعها على الأرض ، وأصبح محمد أكثر تهيجا ونشيجا ويصرخ فيهم جميعا طاردا أياهم من الغرفة ، وسلمى الصغيرة تجهش بالبكاء دافنة وجهها في ثوب أمها ، ومحمد يزداد صراخا وتشنجا ويضرب بيديه كل أثاث الغرفة بلا تمييز ويطالبهم بالخروج من غرفته وتركه لوحده وعدم الحديث معة ، والأم في حالة ذهول وخوف ممزوج بالحنان يعتصر قلبها الذي كاد أن ينفطر ، وخالتي نادية تردد المعوذتين والبسملة وتحاول أن تهديء حسام الذي لم يستجب اطلاقا . حتى وان جاء صديقة علي في زيارته المعهودة ، فراح يهديء في الجميع وأخرجهم من الغرفة واعدا بأنه سوف يتدبر الأمر مع " حسام " صديقة ، خرج الجميع والأم تبكي وخالتي نادية تردد في المقولات الدينية ، وسلمى الصغيرة تجهش بالبكاء .
عم الهدوء الغرفة بعد أن تحدث الصديق مع صديقة بطريقة يعرفانها سويا وبعبارات خاصة بينهم " كأولاد حلة واحده وأولاد مدرسة واحده بل أدولاد زقاق واحد " . بل أكثر من ذلك أقنعة بأن يبدل البنطال الجينز الذي ارتداة لأكثر من أسبوعين متواصلين ، بعد أن فشلت الأم في ذلك وكان البنطال الجينز موضوع شجار يومي كل صباح بينهما ، حتى أنها ذات مرة هددتة بأنها سوف تبلغ والدةعبر الهاتف في المملكة العربية السعودية بهذا الخصوص وانها أيضا ستبلغة بطريقتة التي أصبحت قليلة التأدب في الحوار معها ، وأيضا بعزوفة عن الذهاب للبنك لصرف التحويلة الشهرية .
بعد أن ارتدت صينية الغداء خائبة الى مقر انتاجها دون أن يمسس منها أحد طبقا واحدا ، عدا القطة الصغيرة التي انتهزت الفرصة وألتهمت كل طبق "اللحمة" تعويضا عن الأسابيع الطوال التي لم تأكل فيها داخل المنزل بعد أن أهملها "محمد " الذي كان يرعى شؤونها . وهذا الموضوع أيضا كان مثار نقاش حاد لكنه برئء بينه وبين أخته الصغرى "سلمى" التي أكلت الحيرة عقلها الصغير وهي تلاحظ أخوها يتبدل يوما بعد يوم وتتغير فية تفاصيل وحدها هي التي تدركها رغم صغر سنها ، الا أنها في عمر الطفولة المتسارع التنامي للعمليات العقلية ، فعند الخمس سنوات تشتد الملاحظة وتنشط العمليات الفسيولوجية والذهنية لمحاولة فهم الحراك الحياتي وتداخلاتة وتناقضاتة ، قد يمتزج كل ذلك بخيالات وتصورات غير موجودة لأشكال او أفكار أو أصوات أو أشخاص وهذا طبيعي جدا وناتج عن ضرورة التغيير نحو الارتقاء والنماء البيولوجي والنفسي ، فالصغيرة "سلمى " كانت تتداخل عندها تفاصيل "حسام " الغريبة مع خيالات الطفولة ، فالطريقة التي أصبح يمشي بها أقرب الى الأنسان الآلي الذي تراه في التلفزيون ، وثورة الغضب التي حدثت اليوم تراءت في حلمها بعد ان غفت مباشرة بعد خرجهم من الغرفة وتمددها في رجلي والدها عندما جلست تتحادث مع خالتي نادية وتجهش بالبكاء ، فسلمى دفنت وجهها بثوب أمها ونامت بعمق فية شبح أخوها وبعض من أشباح الفضاء ووجه الكديسة وصوت الصراخ ووجة الأستاذة التي تخاف منها في الروضة .
بعد سويعات :
استيقظت الصغيرة سلمى من نومها المخيف ، وأمها وجارتهم "خالتي نادية " مازالتا في نفس جلستهما عند السريرين المقابلين لبعضهما في فناء المنزل الداخلي تتحادثان ، أما الأخ الأكبر حاتم فكان قد أغلق على نفسة باب غرفتة مع كوب القهوة وعلبة سجائرة التي أصبحت تلازمة فارغة في أغلب الأحيان وممتلئة في ساعات قلائل في اليوم ، حيث عجز عن اعطاء والدتة وعمة "عبد الرحمن " تفسيرا لازدياد نهمة تجاة التدخين ، لكنة يعلم بينه وبين نفسة أن قلقة على "حسام " أخوه الأصغر الذي بدأ منذ شهور وأصبح يتصاعد يوما بعد يوم خصوصا في الآونة الأخيرة ، هذا القلق هو السبب الرئيس وراء تدخينه المتكرر ، لأن مالاحظة حاتم جعلة أحيانا يعتقد أن أخوه ليس هو أخوه وكان يحلم أحلاما متكررة تكون قصتها الأساسية هي أن كائنا خرافيا ما رمى لهم من الفضاء شخصا آخر وأخذ حسام معه . فحاتم ماعاد يسمع في ميدان الكورة بالحي قفشات حسام المضحكة التي يهتز لها بطون كل اللاعبين لدرجة أن اللعبة تتوقف وفي نفس الوقت حسام يكون محافظ على تركيزة ويلوز بالكرة لوحده محرزا هدفا عبقريا ، ماعاد حاتم يرى خفة حسام في الجري ممشوق القوام محرزا المرتبة الأولى التي لم يتنازل عنها منذ أن كان في الخامسة من عمرة وحتى عندما أصابتة الملاريا أو لعنة الامتحانات ، الامتحانات التي كانت بالنسبة لحاتم جحيما لايقوى على تحملة لولا مساعدة حسام الذي كان بدورة يعتبرها فترة تحدي وابراز عضلاتة الذهنية حائزا في كل مرة على هدية العام من مدير المدرسة ، هذا المدير الذي تفاجأ بة حاتم وهو يقف أمام باب منزلهم الآن عندما نظر من شباك غرفتة ووجد سلمى حافية القدمين تقول له " لا لأ أبوي مافي " . هرع حاتم نحو الباب بعد أن بدل بسرعة البرق قميصة بآخر حديث الكي والغسل ، وانتعل "شبشبة " الجلد بدلا من "السفنجة " وراح يرحب بالمدير راجيا منه الدخول فاتحا له باب الصالون المقابل لباب المنزل الخارجي .
كل تلك الضجة لم تنتزع أم حسام وصديقتها نادية من عمق الحديث الممذوج بدموع الأمومة وشكواها الخائفة مماوصل الية ابنها الذي كان نوارة الحي كما تسمية "خالتي نادية " . لم تكمل الأم جملتها عن وصف الأوقات التي يقضيها حسام منفردا في ركن المنزل المهجور تحت لهيب أشعة الشمس ، حتى ندهها حاتم بصوت مرتجف ومؤدب : " أمي أمي مدير ناس حسام عايزك " ، "عايزني وين " ، " في الصالون " ، تضرب بكفها على صدرها وتبحلق في وجه صديقتها : " سجمي داير شنو أول مرة يجينا لحدي هنا كان لو في حاجة مهمه بضرب تلفون " .
عندما انتهى النهار وشارفت شمس اليوم على المغيب . كانت الأسرة قد علمت أن حسام لم يذهب الى المدرسة طيلة أسابيع عدة وأنه كان يكذب بشأن نتائج الاختبارات التي أصبحت أقرب للرسوب ، وأنه تخلى عن اشتراكه في جمعية الرياضة ، وعرف المدير أن سبب تغيبة من المدرسة ليس بسبب الملاريا وليس بسبب حضور والدة من المملكة العربية السعودية .
الوحيد الذي كان يعلم الحقيقة كاملة هو "علي " الصديق الصدوق " لحسام
الذي تفاجأ بدخول "أم حسام" ، عليهم في الغرفة وهما يتبادلان "كيس السفة" فيقع الكيس من يد " حسام " من فرط المفاجأة لتصدم الأم صدمة عمرها ، وتعلم لاحقا بعد أن "تزرزر" "علي" في الحديث ، تعلم أن حسام أصبح مدمنا على "الصعود" ، والمورد الأساسي هو " علي" .
تقرر الأم أن الكيل قد طفح ولابد من اتخاذ موقف ، وتبدأ تقتنع بنظرية "نادية" صديقتها التي مفادها أن " حسام " مصاب بالعين ، وعين شديده كمان واحتمال معمول ليو عمل .
ويتحدد الزمان والمكان للذهاب للشيخ ، فقلب تلك الأم انفطر لحال ابنها ، والحياة في المنزل ماعادت كالسابق ، الهدوء البائس ، الوجوم ، بكاء سلمى المستمر ، هيجان حسام غير المبرر وتلافة لأثاث المنزل ، شكوى "حاتم " المستمرة من تراكم كل الأعباء علية بما فيها خدمة " حسام " نفسة ، ونحول جسمة جراء التدخين المستمر . ثرثرة نسوان الحلة التي توصلها "نادية" للأم المغلوبة على أمرها ، والتي يقولون فيها " انتي يختي أم ناس حاتم وحسام دي راجلا طلقا ولا شنو ؟ ملا بقت غبشااا كدي ؟ " .
لولا خوف حسام من أن تخبر والدتة عمه "عبد الرحمن " ، بأمر تعاطيه "الصعود" ، لما وافق على الذهاب الى الشيخ . كان حسام في قرارة نفسة يتمنى لو أن والدته هددتة باخبار والده في السعودية وليس عمه "عبد الرحمن" ، ليس لأن والدة أقل خشونة في التعامل ، لكن لاحساسة العميق بأنه يريد ثمة صلة بوالدة الذي يفتقدة كثيرا ، حتى ولو كانت تلك الصلة تعنيفا وعقابا عبر الهاتف .
للمرة الثالثة يتغيب " حاتم " عن العمل ليجالس الصغيرة " سلمى " في المنزل عند ذهاب والدتة و" نادية" آخذين " حسام " الى الشيخ وقضاء كل اليوم هناك ورجوعهم عند المغيب . فتبدأ الاجراءات الليلية لتنفيذ أوامر ونصائح الشيخ ، الذي أصبح " حسام" في قرارة نفسه يتمنى له الموت ، ولكن لايستطيع أن يعبر عن ذلك لأحد خصوصا بعد أن منع صديقه "علي" منعا باتا من زيارته بأمر من أمه القلقه عليه . فصار أكثر وحدة واقفلت كل منافذ التفريغ عن الهموم التي كانت متبقية له .
الاجراءات " الشيخية " ، تبدءها " نادية " بايقاد الجمر في المبخر ، لتضع " أم حسام" البخرات فينطلق البخور في كل أرجاء المنزل باعثا رائحة كريهه يقول الشيخ أن وجودها دليل على أن هناك "عملا معمولا لتلك الأسرة يبدأ يحترق رويدا رويدا مع اشعال البخرات " . وحسام يجيء دورة مباشرة بعد تبخير البيت لينحنى في المبخر مغطيا رأسه بالملاءة مع نوع آخر من البخرات أكثر نفاذية للرائحة الكريهة والتي هي دليل على أن العمل معمول باسم "حسام" كما قال الشيخ وأن به حسد لما يمتاز به من سماحة وجه وسماحة خلق وذكاء خارق وقوام رياضي وروح خفيفة الظل .
تمر اللحظات على " حسام " وهو مغمور مع دخان البخرات ، وسخونة جلدة التي تتزايد بالتدريج جراء ملامسة الحرارة المنبعثة من جمر المبخر لجلدة المغطى بزيت الشيخ داكن اللون لزج الملمس ، الذي يجعل " سلمى " تخاف كثيرا عندما ترى جسده كليا مغطى به . هذه المرة كانت البخرات أكثر اشتعالا فهو اليوم الثالث وهو يوم انتهاء المرحلة الأولى من زوال الحسد كما قال الشيخ ، يتصاعد الدخان كثيفا وتتصاعد سخونة جلد حسام وصوت طقطقة الورق وبعض مواد أخرى يعلو وسط الجمرفي المبخر ، ويعلو أيضا داخل رأس حسام صوت صراخ قديم في ذاكرتة لوالدتة وهي تقاوم ضرب والدة لها بأداة ما لايستطيع تمييزها فذلك المشهد محفور في عمق ذاكرتة بعيدا جدا لدرجة أن الملامح غير واضحة لكن الواضح تماما هي ملامح الألم بداخلة الذي بدأ يسابق تصاعد الدخان ، فتسارعت أنفاسه عندما اختلط مشهد ضرب والدة لوالدتة بمشهد الشيخ وهو يضرب فيه بالصوت وشعورة بالألم في ظهرة ويدية ورجلية وامنياته بأن يموت الشيخ الآن التي تشبه أمنيات أمه بموت والدة عندما كانت تصارح بها "نادية" . وكان هو طفلا صغيرا يلعب بالقرب منهم في فناء المنزل ولا تدري أمه أنه يعي شيئا مماتقولان . تضخمت في مخيلته صورة الجروح والكدمات في جسد أمه عندما خلعت ثوبها لتوريها "لناديه" . وهذه المرة لم تكن الصورة غبشاء وغير واضحه بل كأنها ماثلة أمامة الآن رغم أن المشهد عندما حدث في الواقع كان هو عمرة خمس سنوات . واختلط علية احساس السخونة التي في جلده هل هي جراء نار المبخر أم احساسة بكدمات أمة كأنما في جسدة هو . وتكررت مشاهد الضرب والصراخ المنبعثة من ماضية الطفولي وكأنما تمضي علية سنينا تحت الملاءة وسط دخان البخرات . رغم أنه كان يحب والدة الا أن احساسا بالغبن والحزن والكرة كان يقاوم ذلك الحب وينتهي صراع الوجدان بلا فائز ، بل ببداية جولة جديدة من الصراع بين حبة لوالدة وغبنه تجاهه . كلما كبر عمرة كلما كبرة حلبة الصراع داخل صدرة .
تذكر " حسام " كيف أن اليوم الذي سافر فية والدة الى المملكة العربية السعودية ، لم تذهب معهم والده الى المطار فكانت في داخلة مراسم الوداع مبتورة ، كبتر أحلامه بحياة أسرية دافئة عندما علم مستقبلا أن سفر والدة كان بداية قطيعة نهائية بينه وبين والدتة . تمنى أن تكون تلك القطيعة النهائية بينه وبين ذالك الدخان النتن الرائحة الذي بسببة سوف يقاطع بدورة "خالتي نادية" الى الأبد التي شرعت ترمي بحيبات سوداء وبنية على الجمر تزيد من تصاعد السحب الدخانية . هي لاتعلم أن " أول أوكسيد الكربون " الناتج عن حرق أي مادة بالنار يمثل مادة سامة تضر برئتي " حسام " المحسود .
فجأة ركل حسام المبخر وهو يتذكر ركلة من والدة في جسد والدتة ، يزيح الملاءة عنه بشراسة ويصرخ متهيجا ، يفقد احساسه بالمكان والزمان يدخل في نوبة من الصراخ ويهزيء بكلمات غير مفهومة يتشنج كل جسدة ، ولاتقوى المرءتان على تثبيته ، يجيء حاتم مسرعا ويحاول انقاذ الموقف لكن هيهات ، هدأ حسام فقط عندما خارت قواه وارتطم بالأرض ممدا جسدة الذي حملة أخوه الى داخل الغرفة ووضعه في السرير المقابل لهواء " الشباك " .
شارفت على أن يغمى عليها " أم حسام " ضاقت أنفاسها ، وتجرعت كوب ماء بعد أن ناولتها " نادية" عقاقير علاج ارتفاع الضغط . احتضنت " نادية" "سلمى "الصغيرة والدمعات ذات البلورة الأكبر تسقط لتختلط بذات البلورة الأصغر المتساقطة من عيني الطفلة .
حيرة حاتم الممتدة على طول الطريق المجهول اللانهائي أمامة وهو جالس قرب أخية في السرير ، تلك الحيرة الحزينة قاطعها صوت طرقات على باب المنزل الخارجي ، ذهب ليفتح الباب بعد تأكده من أن الطارق هي معلمة " سلمى " في الروضة ، ربما تحمس لفتح الباب لاحساسة الدائم بالراحة تجاة تلك الشابة التي يحادثها كلما أراد الاطمئنان على سير سلمى مع الدروس واللعب . الابتسامة المشرقة التي قابلته بها جعلت مصافحتة لها كأنما واحة خضراء حلت فجأة حولة وبددت اللهيب المنبعث من الأحداث المتصاعدة بمنزلهم شهورا وانفجرت للتو كقنبلة موقوتة .
سألتة عن " سلمى" ؟ مستفسرة عن غيابها المتكرر . ومستعجبة لبكاءها أثناء اليوم الدراسي الذي أصبح متكررا في الآونة الأخيرة دون أسباب واضحة واحيانا لأسباب كانت قديما لاتبكيها . دون توقف بدأ حاتم يسرد كل التفاصيل والمتغيرات الحادثة في منزلهم مؤخرا . وكأنة يستجير بظل تلك الواحة بعد ترحال في الصحراء الكبرى دام دهورا ، هو يعلم أن ملاحظات معلمة "سلمى" نابعة من كون تخصصها في مجال علم النفس وهي المسؤولة بشكل مباشر عن قضايا الاشراف النفسي في الروضة ، ودائما ماكانت مشورتها ناجحة في كل الأمور المتعلقة بسلوك أختة الصغيرة ودراستها . بالاضافة الى أن شيئا من رجولتة يحدثه عنها بلطف لكنه حديث هامس لأن الصوت العالي الآن لحل مشاكل الأسرة .
استمعت الية بصبر مهني . وصبر آخر نابع من شريانها التاجي لامت نفسها علية لتعارضه مع أخلاقيات المهنة . نصحت " حاتم " بأخذ "حسام " فورا الى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية ، بعد أن ألقت عليه نظرة وهو ممد في السرير بلا حراك وخلصت الى أنه مصاب بالاكتئاب النفسي لكنها لم تتسرع في اخبارهم لحين تأكد ذلك بعد اجراء الفحص في المستشفى . وقالت له يجب أن تذهب والدتهم أيضا . وهي سوف تذهب معهم . وتبقى " سلمى مع خالتي نادية في المنزل " .
من كان يصدق أن هذا هو " حسام" ؟ بعد مضي ستة أشهر من مسيرة العلاج المتواصلة قضى منها شهر بعنبر المستشفى . عاد لوجهه رونقة المعهود ، وعادت ابتسامته تزرع المحبة في نفس دلوعتة "سلمى" . انه بطل الملعب عاد مرة أخرى ليسابق الجميع ويحصل على الأعجاب من البعض ويواجه بالغيرة من الآخر . رويدا رويدا أستعاد نشاطة ومافاته من دروس اصبحت وجباته الغذائية منتظمة ، والأستاذة " شيرين " ، معلمة "سلمى " في الروضة ، لم تبخل بالمتابعة المهنية اللصيقة وكثيرا ما عدلت رأي أم حسام عندما كانت ترفض مكوث ابنها في المستشفى النفسي . وكانت تتفاكر كثيرا مع الاختصاصية النفسية التي تباشر عملية العلاج مع "حسام" في المستشفى ومع الطبيب النفسي .
بعد عام كان "حسام " يرقص في منتصف الدائرة المحتشدة بأصدقاءة وصديقاتة وصخب الموسيقى يصم آذانه الطروبة بعد أن كان يصمها صوت الصراخ . فالوقت للفرح ، " حاتم وشيرين" عروسان .
طالما مازحهما قائلا : " تصطادوا في الموية العكرة يخس عليييييكم " . وينفجر الجمع في ضحك بهيج .