ارتبط التنظير لاستقلال الدولة بالفكر السياسي الحديث والمعاصر في أوروبا، وإن كان من حيث الممارسة قديم قدم الفكر السياسي، غير أن الفكر السياسي الحديث والمعاصر أولى أهمية بالغة لمفهوم استقلال الدولة وسيادتها على أقاليمها لما في احترام استقلال الدول من أثر إيجابي على السلم والاستقرار الدولي والإنساني، فماذا يعني مفهوم استقلال الدولة؟ وما هي شروطه ومقوماته في الفكر السياسي المعاصر؟ وهل يمكن الحديث عن استقلال كلي للدولة؟ أم أن هذا النوع من الاستقلال متعذر اليوم في ظل النظام العالمي المعاصر القائم على تداخل المصالح وتشابكها والقائم على التمايز بين دول كبرى مالكة لقرارها السياسي ومتمتعة بسيادتها ومتحكمة في السياسات الدولية وبين دول صغيرة وضعيفة وغير مالكة لقرارها ولسيادتها؟ وما الذي يجعل بعض الدول غير مالكة لسيادتها بشكل كامل وغير مستقلة بمقاييس الاستقلال كما هو متعارف عليه في الفكر السياسي الدولي؟
مفهوم استقلال الدولة في القانون الدولي:
يعتبر استقلال الدولة واحدا من الشروط الضرورية للاعتراف بشرعية الدولة بل هو شرط في تعريف الدولة، إذ يعرفها بعض رجال القانون الدولي بأنها”وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيأة اجتماعية لها حق ممارسة سلطة قانونية معينة في مواجهة أمة مستقرة على إقليم محدد، وتباشر الدولة حقوق السيادة بإرادتها المنفردة، وعن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها”(النظم السياسية:محمد كامل ليله، ص:20 دار الفكر العربي، 1980)، أو هي “مجموعة كبيرة من الناس تقطن على وجه الدوام إقليما معيناً، وتتمتع بالشخصية المعنوية والنظام والاستقلال (القانون الدستوري : عثمان خليل، ص:10، مكتبة عبد الله وهبة، 1954 القاهرة)، فأحيانا يعبر بلفظ الاستقلال وأحيانا أخرى بلفظ السيادة وهما بمعنى ممارسة الدولة لقرارها السياسي داخليا وخارجيا وفق إرادتها الحرة، أو بمعنى آخر عدم خضوع الدولة لأي سلطة داخلية كانت أو خارجية ولا يحق لأي جهة أن تفرض قوتها على الدولة في منطقة نفوذها، وتوجيه إرادتها أو الضغط عليها.
فعلى المستوى الداخلي يعني استقلال الدولة امتلاكها السلطة المطلقة على جميع الأفراد والجماعات والمناطق الداخلة تحت حكمها وتستمد شرعيتها من التعاقد بين الحكام والمحكومين والبيعة الشرعية، وهذه الشرعية هي التي تخول للدولة تشريع القوانين والنظم وإلزام الناس بها حفظا لمصالحهم وصونا لهيبة الدولة، كما تخول لها تدبير شؤون البلاد سياسيا واقتصاديا وثقافيا وتعليميا وقضائيا.. تبعا لخصوصية البلاد وما تقتضيه المصلحة .
أما على المستوى الخارجي فيعني مبدأ استقلال الدولة وسيادتها استقلالها فعليا وقانونيا في ممارسة قرارها الدولي بعيدا عن سيطرة أية دولة أخرى أو توجيهها، واعتراف الدول الأخرى بها، وحقها في التمثيل الدبلوماسي، وعضوية المنظمات الدولية، وحريتها في اتخاذ القرارات الدولية على الصعيد الخارجي وعلى صعيد العلاقات الدولية من دون قيد أو تردد أو إكراه أو ضغط إلا فيما يتعلق بالالتزامات الحرة التي يقرها القانون الدولي والمعاهدات الدولية الثنائية والإقليمية في نطاق الندية والاحترام المتبادل، وفيما لا يتعارض مع هوية الشعب وثوابته.
وتأسيسا على ما سبق يمكن القول إن استقلال أية دولة يقتضي تحررها من أي شكل من أشكال الضغط والإكراه والتحكم الداخلي والخارجي ، وهذا التحرر نفسه يستلزم امتلاك الدولة لعنصر القوة الكافية لفرض سلطتها وإنفاذ قراراتها ومواقفها لأن المجال السياسي وإن كان يقوم على التعايش والتعاون والتشارك في مصالح معينة فإنه يقوم أيضا على التنافس والصراع والاختلاف والتفاوت في المصالح وموازين القوى مما يفرض امتلاك القوة اللازمة والكافية لممارسة الاستقلال الفعلي في اتخاذ القرارات.
وبناء على هذه المعطيات هل يمكن القول بأن جميع دول العالم متكافئة في استقلالها ومتساوية في ممارسة سيادتها الداخلية والخارجية؟
استقلال الدولة بين النسبية والإطلاق:
يظهر الواقع الدولي وواقع العلاقات الدولية المعاصر والقديم على حد سواء أن الدول ليست متساوية في فرض إرادتها السياسية وفي التمتع بسيادتها داخليا وخارجيا، ويمكن في هذا السياق الحديث عن ثلاثة أشكال من الدول:
- دول تتمتع بكامل استقلالها: ويتعلق الأمر هنا بالدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والدول المصنعة ذات القدرات الصناعية النووية، هذه الدول تمارس استقلالها وفق إرادة حرة تنبني على السبق في المبادرة وتوجيه السياسات الدولية بما يخدم مصالحها، وتكون قادرة على تكييف أي مبادرة سياسية أخرى أو مراقبتها وتطويقها.
- دول لا تتمتع باستقلالها تماما وهي الدول الواقعة تحت الاحتلال والغزو والاستعمار كما هو الحال في العراق وفلسطين وأفغانستان، بحيث لا يمكن الحديث عن استقلال دولة لا يزال الاحتلال يسيطر على أراضيها ويتحكم في سياساتها الداخلية والخارجية على الرغم من وجود حكومة وسلطة محلية كما هو الشأن في العراق وأفغانستان وحكومة السلطة الفلسطينية..
دول تتمتع باستقلالها بشكل نسبي: وهي الدول النامية أو دول العالم الثالث فهذه وإن كانت قد أحرزت على استقلالها من الاستعمار العسكري الغربي في القرن الماضي فإنها خاضعة لقوانين النظام الدولي كتقسيم العمل الدولي، وتأسيس مؤسسات دولية سياسية واقتصادية وأمنية وظيفتها الحفاظ على هيمنة الدول المستعمرة والكبرى على الدول الضعيفة تحت عطاءات متعددة منها : المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية المشتركة!! فضلا عن أن أغلب أفراد الحكومات التي تتولى مقاليد الحكم في هذه الدول من ذوي الميولات والولاءات الغربية التابعة لهذه الدول المستعمرة أما المقاومون وأبناء البلد المخلصون فكأن واجبهم كان هو طرد الغزاة فقط دون أن يكون لهم الحق في المشاركة في بناء استقلال الدولة كما تصورته حركات المقاومة، وحتى الدول النامية التي قادت سياساتها حكومات ثورية انقلابية على رموز الاستعمار لم تمارس استقلالها السياسي كاملا بسبب الانتماء اللاوطني واللاقومي للثوار الذين كانوا يتبنون إيديولوجيات سياسية وفكرية موالية إما للنظام اللبرالي أو للنظام الاشتراكي، إضافة إلى هذا تم تحجيم هذه الاستقلالات بمجموعة من العهود والمواثيق الدولية التي خرجت من رحم الدول الكبرى وهيآتها العالمية التي وضعت لتأمين مصالح هذه الدول سياسيا وإيدولوجيا واقتصاديا وعسكريا ولغويا… وبما يحفظ استمرار قوتها العالمية وسيطرتها في إطار التنافس الدولي على العالم الثالث ومقدراته الطبيعية ومؤهلاته البشرية.
مــا الذي يمنع الدول من الاستقلال استقلالا تاما:
بالنظر إلى طبيعة النظام الدولي المعاصر ومكوناته والفاعلين فيه والمصالح الاستراتيجية التي تحركه وبالنظر إلى عصر العولمة وقوة المؤسسات المالية الدولية والشركات متعددة الجنسيات والتكنولوجيا الرقمية بدأ يصعب الحديث عن وجود دولة مستقلة استقلالاً تاما بما يعنيه هذا المفهوم ولم يعد بإمكان أي دولة ممارسة قرارها السياسي بمعزل عن المؤثرات المحيطة بها كما لا يمكنها الاكتفاء بحدودها الجغرافية وثرواتها الاقتصادية أو الانفراد بقرارها السياسي والتصلب على مواقفها الإيديولوجية والتحصن بثقافتها القومية واللغوية دون التداخل والتبادل والتعاون والتأثير والتأثر والأخذ والعطاء. إذا الاستقلال من هذا النوع كاد أن يكون مجرد ذكريات من التاريخ القديم.
لعل الذي يهدد استقلال الدول المعاصرة ليس هو التعاون الندي والمشاركة الإيجابية في إدارة قضايا العالم المعاصر وليس هو تبادل الخدمات والمنافع الإنسانية والالتزام بها في إطار السلم والأخوة والعدل وإنما الذي أصبح يهدد استقلال الدول هو التدخل العسكري المباشر والاعتداء على السيادة الإقليمية لدولة أخرى وانتهاك القوانين والأعراف الدولية التي تحرم وتجرم مثل هذه السلوكات المبنية على القوة وليس على الحق (حالة العراق وفلسطين وأفغانستان وباكستان..)، إضافة إلى هذا يمكن القول إن كثيرا من القوانين الدولية باتت تخدم مصالح الكبار وتتعارض مع مصالح الدول الصغيرة والشعوب الضعيفة وتتنافى مع معتقداتها الدينية والثقافية وتهددها بالضياع والتبعية (حالة العالم الإسلامي مع كثير من المواثيق الدولية المنافية لأصول الشريعة الإسلامية ومقاصدها خاصة ما يتعلق منها بالتعليم والمرأة والاقتصاد والقضاء..)، كما يمكن اعتبار تدخل الدول الغربية أو الدول الإقليمية المتجاورة في دعم حركات المعارضة وحركات الانفصال وتقوية جانبها إيديولوجيا وعسكريا مما يقوض استقلال الدولة وينقضه (مثل دعم الجزائر لجبهة البوليساريو في الجنوب، والسودان في الجنوب ودارفور حاليا، ودعم الغرب للتيارات السياسية والمذاهب الفكرية على حساب التوجهات الوطنية…). كما يمكن الحديث عن دور ثورة الاتصال والمعلوميات في تذويب الحدود الجغرافية بين الدول وإتاحة تدفق السلع والبضائع والأفكار غير المرغوب فيها من غير قدرة على التحكم فيها أو توجيهها الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تغيرات مهمة على المدى الطويل في كيان الدولة والمجتمع والتأثير سلبا على استقلالهما سياسيا واقتصاديا ولغويا واجتماعيا وثقافيا وتعليميا…
وعموما فإن الحديث عن الاستقلال التام للدولة -بالخصوص النامية والفقيرة- أصبح شبه متعذر نظرا للاعتبارات السابقة ولغيرها، وبعض هذه الاعتبارات أقوى وأخطر وبعضها سريع المفعول في تهديد استقلال الدولة وبعضها بطيء ومميت مع مرور الزمن، وبعضها يمكن الوعي بخطورته ومقاومته وبعضها يصعب الوعي بمخاطره أو دفعه، لذلك بات لازما لبناء الاستقلال الحقيقي من الإعداد له وفق تصور شمولي يراعي جميع مكوناته ولوازمه وشروطه. كما لابد من الأخذ بعين الاعتبار التداخل بين المصالح والأغراض الدولية والموازنة بينها وبين مصالح الأمة ومقوماتها الذاتية والثقافية والحضارية، واتخاذ القرار السياسي الفاعل والحكيم. وباختصار يتوقف تحقيق الاستقلال الفاعل على الإرادة الحرة والقوية لأبناء البلد في تثبيت وجودهم وفرض ثقافتهم على كل من يريد إذابتها والقضاء عليها ، فلا قيمة لبلد لا استقلال له ولا قيمة لاستقلال لا ينبني على الإرادة الحقيقية لأبناء البلد على مقوماتهم الحضارية.