كان أهل بابل ينعمون برغد العيش ويتفيأون ظلال النعمة ولكنهم كانوا يخبطون في دياجير الظلام ويترددون في مهادي الضلالة فقد نحتوا الاصنام بأيديهم وصنعوها على أعينهم ثم جعلوها أربابا ونصبوها آلهة وعكفوا على عبادتها من دون الله الذي خلقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
وكان نمرود بن كنعان قابضا على زمام الملك في بابل وحاكما بأمره مستبدا برأيه ولما رأى ما يتقلب فيه من نعيم وما يتمتع به من سطوة الملك وبه من سطوة الملك وما يحيط به من قوة السلطان دعا الناس الى عبادته وتعظيمه وقد وجد الجهل فاشيا والعقائد فاسدة والقوم في ضلال مبين .
في وسط هذة البيئة الفاسدة ولد سيدنا ابراهيم ثم أتاه الله الرشد وهداه إلى الحق فعرف بصائب رأيه وثاقب فكره ووحي ربه ان الله واحد وأنه المهيمن على الكون المسيطر على العالم وأدرك أن الاصنام التي يعبدونها وتلك التماثيل التي ينحتونها لا تغني عنهم من الله شيئا لذلك أزمع الدعوة إلى توحيد الله وعزم على تخليص قومه من وهدة الشرك .
وقد كان سيدنا ابراهيم مفعم النفس بالإيمان بربه ممتلئا بالثقة واليقين بقدرة خالقه مؤمنا بما أوحي إليه من بعث الناس بعد موتهم وحسابهم في حياة أخرى على أعمالهم ولكنه أراد أن يزداد بصيرة وإيمانا وثقة ويقينا .
ولما كان سيدنا ابراهيم يقصد الى أن تطمئن نفسه ويستقر فؤاده أجاب الله سؤله وأمره أن يأخذ أربعة من الطير ويضمها اليه ليتعرف أجزاءها ويتأمل خلقها ثم يجعلها أجزاء ويفرقها أشلاء ويجعل على كل جبل منهن جزءا ثم يدعوهن إليه فيأتينه سعيا بإذن الله.
فلما فعل صار كل جزء ينضم إلى مثله وعادت الأشلاء كل في مكانه وسرعان ما سرت فيها الحياة ورجعت إليها الروح وسعت إليه بقدرة الله وسارت اليه بإرادته وهو يرى آياته البينة وقدرته الباهرة التي لا يعجزها شئ في السموات ولا في الارض.
كان آزر يعبد الاصنام بل كان ممن ينحتها ويبيعها وهو أقرب الناس اليه والصقهم به لم يبدا الدعوة مع ابيه اوتحقير آلهته لئلا ينفر منه او يصم آذانه عنه او يرميه بالعقوق والجحود بل رتب الكلام معه على أحسن اتساق وخاطبه بالقول اللين والأدب الجميل وابتدا حديثه معه بذكر بنوته وعكوفه على عبادتها مع أنها لاتسمع دعاءه و ثناءه.
وخاف ان ينصرف عنه استصغارا لشأنه وامتهانا لرأيه فقال: يأبت إنه قد جاءني من العلم ما لم يأتك وأوتيت حظا من المعرفة لم تؤته .ثم توسل اليه ان يتبع خطواته ويسير على هديه فذلك هو الصراط المستقيم والطريق القويم.
فلما عرض هذا الرشد واهدى هذا هذه النصيحة اليه ابى آزر متابعة رايه وقال محتقرا لشانه متعجبا من جرأته منكرا عليه نصيحته :أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته عن زيغك وترجع عن غيك ولارمينك بهجر القول فاحذر سورة غضبي وتجنب اثارة سخطي فليس لك في داري مكان ولن تجد في قلبي أثارة من عطف او بقية من إحسان.
قابل سيدنا إبراهيم تهديد آزر بصدر رحب وتلقى وعيده بنفس مطمئنة ثم أجابه بما ينبئ عن بره به وإخلاصه النصح له وقال: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى الا أكون بدعاء ربي شقيا).
ودعه وانصرف وهو كاسف البال محزون الفؤاد لان دعوته لم تجد آذانا مصغية عند ابيه واعتز له لئلا يكون مظاهرا له على الكفر ومشايعا في الشرك.
خاب رجاء سيدنا ابراهيم حين انكر عليه ابوه دعوته وحز في نفسه ان يدعوه الى الخير فلا يستجيب دعاءه وان يهديه الى الحق فيبرا منه وينأى عنه ولكن هذه الغلطة التي بدت من أبيه وذلك الجفاء الذي ظهر منه لم يقعداه عن دعوته الى الحق ولم يثنياه عن النكير على قومه اشراكهم بالله وعبادتهم الاصنام من دونه .
وقد كان من عادة اولئك القوم ان يقيموا عيدا لهم في كل عام يقضون ايامه خارج المدينة يهرعون اليه بعد يضعوا طعاما كثيرا في بيت العبادة حتى اذا مت رجعوا من عيدهم اكلوه فرحين واقبلوا عليه مغتبطين فقد باركته الآلهة واضفت عليه الخير.
لما هموا بالذهاب الى عيدهم طلبوا اليه ان يرافقهم وسالوه ان يشاركم في الخروج الى ظاهر المدينتهم فأبى ان يصحبهم وامتنع عن الانتظام في سلكهم وقد عقد العزم على ان يهدم صرح آلهتهم ويقوض عرش معبوداتهم وادعى العلة وتظاهر بالسقم .
ولما خلا الجو من العيون التي تترصده واختفت الابصار التي كانت تترقبه دلف الى الاصنام ودخل الى بيت عبادتهم فوجد باحة قد اكتظت بالتماثيل وانتشرت في ارجائها الاصنام فصار يلطمها بيده ويركلها برجله واخيرا تملكته سورة الغضب لدينه واستولت شرة الغيظ لربه فتناول فاسا وهوى عليها يكسرها ويحطمها وتركها حجارة مبعثرة وانصرف عنها وهو مطمئن البال قرير العين لاستئصاله جذزو الشر وطمسه معالم الشرك .
ورجعوا من عيدهم وراوا ما حل بمعبوداتهم فبهتوا لهول ما راوا وسقط في ايديهم عندما وجدوا الآلهة متهشمة وتساءلوا : (من فعل هذا بالهتنا وانه لمن الظالمين )
قال قائلهم :سمعنا فتى يقال له ابراهيم :يذكر آلهتنا ويعيب علينا عبادتها ويزدريها ويحتقرها فهو المجترئ عليها والمحطم لها.
ارادوا ان يعاقبوه بالاحراق ولا ذنب له الا ان قال :ربي الله ولا جرم ارتكبه الا نقمته على اصنامهم وانكاره عبادة اوثانهم ولكن اعلان التوحيد والجهر بدعوة الناس اليه .
مكثوا مدة يجمعون الحطب حتى تراكمت اعواده وضاق المكان باكوامه ثم اشعلوا النار فيها وعلا لهيبها واحمر جمرها ثم قيدوه ورموا به فيها .القي في النار المستمرة وقلبه بالايمان مفعم وثقته بالله شديدة وامله في النجاة وطيد بل اقبل عليها بصدر رحب ونفس مطمئنة .
لما خبا ضوؤها وانقشع دخانها وسكن اوارها وجدوه معافى سليما وراوه حرا طليقا فعجبوا لحاله وشدهوا لنجاته وتواروا عن اعين الناس خجلين .
وهكذا تمثلت الآية الكبرى والمعجزة العظمى وبهر الناس بتلك الآية الكبرى حتى اوشكوا ان يسلوا زمامهم له ويلقوا من نعيم الحياة وخاف غيرهم ان ينالهم اذى الكافرين والملحدين لذلك لم يؤمن بسيدنا إبراهيم الا نفر قليل كتموا ايمانهم عن القوم خوفا من الكغاة وحذرا من الموت..